الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ حكم العمل بالمرسل ] ذهب الجمهور إلى ضعفه ، وسقوط الاحتجاج به . ونقله مسلم في صدر صحيحه عن قول أهل العلم بالأخبار لاحتمال سماعه من بعض التابعين ، أو ممن لا يوثق بصحبته . وقال بقبوله مالك وأبو حنيفة ، وكذا أحمد في أشهر الروايتين عنه ، وجمهور المعتزلة ، منهم أبو هاشم ، واختاره الآمدي ، ثم غال بعض القائلين بكونه حجة فزعم أنه أقوى من المسند ، لثقة التابعي بصحته في إرساله . وحكاه صاحب " الواضح " عن أبي يوسف ، وغال بعض القائلين بأنه ليس بحجة ، فأنكر مرسل الصحابة إذا احتمل سماعه من تابعي . قال الآمدي : وفصل عيسى بن أبان ، فقبل مراسيل الصحابة ، والتابعين ، وتابعي التابعين ، ومن هو من أئمة النقل مطلقا دون من سواهم . [ ص: 341 ] وكذا نقله عنه أبو الحسين في " المعتمد " ، والسرخسي في " عيون المسائل " ، وقال : إنما يعني به إذا حمل الناس عنه العلم ، وجب قبول مرسله ، وقال بعضهم : أراد ابن أبان بحمل أهل العلم قبولهم منه ، لا على السماع . قال : ومن حمل الناس عنه الحديث المسند ، ولم يحملوا عنه المرسل ، فمرسله موقوف . ا هـ .

                                                      وهذا هو اختيار ابن الحاجب حيث قال : إن كان من أئمة النقل قبل وإلا فلا ، لنا أنه لو قبل الحديث بلا إسناد لفسد الدين ، ولذلك قال ابن المبارك لولا الأسانيد لقال من شاء ما شاء ; ولأن الراوي قد يرسل عمن هو مقبول عنده ومجروح عند غيره . فلا بد من القسم . ألا ترى أن التعديل للحاكم لا إلى غيره . فكل العدالة إنما هي على ما عند المروي له ، لا على ما عند الراوي ; لأن مذاهب الناس مختلفة في الجرح والتعديل . هذا أبو حنيفة يقول : ما رأيت أحدا أكذب من جابر الجعفي ، ما التبست عليه مسألة إلا قال : حدثني ، وما رأيت أحدا أصدق من عطاء الخراساني ، والحارث الأعور ، وكانا عند غيره من الضعفاء ، وبهذا الطريق لم يقبل شهادة شهود الفرع من المجاهيل إلا أن يعينوا أساميهم ، فيبحث عن أحوالهم . فإن قيل : الشهادة مخصوصة بالاحتياط ؟ قلنا : فيما يرجع إلى العدالة سواء . وأما كلام المحدثين ، فقال ابن عبد البر : لا خلاف في أنه لا يجوز العمل بالمرسل إذا كان مرسله غير محترز ، يرسل عن غير الثقات [ ص: 342 ] قال : وهذا الاسم واقع بالإجماع على حديث التابعي الكبير عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثل أن يقول عبيد الله بن عدي بن الخيار ، وأبو أمامة بن سهل بن حنيف ، أو عبد الله بن عامر بن ربيعة ، ومن كان مثلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك من دون هؤلاء كسعيد بن المسيب ، وسالم بن عبد الله ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، والقاسم بن محمد ، ومن كان مثلهم . وكذلك علقمة ومسروق [ ص: 343 ] بن الأجدع ، والحسن ، وابن سيرين ، والشعبي ، وسعيد بن جبير ، ومن كان مثلهم الذين صح لهم لقاء جماعة من الصحابة ومجالستهم ، ونحوه مرسل من هو دونهم ، كحديث الزهري ، وقتادة ، وأبي حازم ، ويحيى بن سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيسمى مرسلا ، كمرسل كبار التابعين . وقال آخرون : حديث هؤلاء عن النبي صلى الله عليه وسلم يسمى منقطعا ; لأنهم لم يلقوا من الصحابة إلا الواحد والاثنين وأكثر روايتهم عن التابعين . انتهى .

                                                      وهذا التمثيل في بعضه مناقشة ، فإن ابن شهاب الزهري ذكر أنه من صغار التابعين ، ومع ذلك قد سمع من الصحابة أنس بن مالك ، وأشهب بن سعد ، والسائب بن يزيد ، وسنين أبا جميلة ، وعبد الرحمن بن أزهر [ ص: 344 ] وربيعة بن عباد بكسر العين وتخفيف الباء الموحدة - ومحمود بن الربيع ، وعبد الله بن ثعلبة بن صعير - بضم الصاد وفتح العين المهملتين - وأبي الطفيل ، وعبد الله بن عامر بن ربيعة ، وأبي أمامة أسعد بن سهل بن حنيف - بضم الحاء - ورجلا من بلي ، - بفتح الباء الموحدة وكسر اللام - ، وكلهم صحابة ، واختلفوا في سماعه من ابن عمر ، فأثبته علي بن المديني ، ونفاه الجمهور . وأما قتادة فسمع أنسا ، وعبد الله بن سرجس ، وأبا الطفيل ، وهم صحابة ، وأما يحيى بن سعيد ، فسمع أنسا ، والسائب بن يزيد ، وعبد الله بن عامر ، وربيعة ، وأبا أمامة أسعد بن سهل بن حنيف . فلا تصح دعواه : أنهم لم يلقوا من الصحابة إلا الواحد والاثنين . وتمثيل أبي عمرو أولا بأبي أمامة بن سهل ، وبعبد الله بن عامر ، وأنهم من كبار التابعين لا يتجه لما صرحوا به من كونهما من الصحابة ، كما نقلناه . إلا أن عبد الله بن عامر مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وله أربع سنين ، أو خمس . ولهذا ما أخرجا حديثه في الصحيحين ، إنما رويا له عن أبيه عامر ، وعن عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعائشة ، وروى له أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم . [ ص: 345 ] وأبو أمامة ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو سماه ، وروى له النسائي ، وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والبخاري ، ومسلم وغيرهما عن الصحابة ، وهو صحابي صغير .

                                                      وكذا عبد الله بن عامر ، ومحمود بن الربيع ، وأبو الطفيل والسائب بن يزيد ، فجعل ابن عبد البر أبا أمامة ، وعبد الله بن عامر تابعيين ، والصحيح أنهما من الصحابة . قال أبو عمر : وأصل مذهب مالك وجماعة من أصحابه أن مرسل الثقة تجب به الحجة ، ويلزم به العمل ، كما تجب بالمسند سواء . قال : ما لم يعترضه العمل الظاهر بالمدينة . والثاني : قال : - وبه قال طائفة من أصحابنا - مراسيل الثقات أولى ، واعتلوا بأن من أسند لك ، فقد أحالك على البحث عن أحوال من سماه لك ، ومن أرسل من الأئمة حديثا مع علمه ودينه وثقته فقد قطع لك بصحته . قال : والمشهور أنهما سواء في الحجة ; لأن السلف فعلوا الأمرين . قال : وممن ذهب إليه أبو الفرج عمر بن محمد المالكي ، وأبو بكر الأبهري ، وهو قول أبي جعفر الطبري . وزعم الطبري أن التابعين بأسرهم أجمعوا على قبول المرسل ، فإنه لم يأت عنهم إنكاره ، ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المائتين ، كأنه يعني أن الشافعي أول من أبى قبول المرسل . وليس كما زعم ، فلا إجماع سابق ، ففي مقدمة صحيح مسلم عن عبد الله بن عباس أنه لم يقبل مرسل بعض التابعين ، وكان من الثقات المحتج بهم في الصحيحين . وفيه أيضا عن ابن سيرين أنه قال : كانوا لا يسألون عن الإسناد ، فلما وقعت الفتنة ، قالوا : سموا لنا رجالكم ، فننظر إلى أهل السنة ، فنأخذ [ ص: 346 ] عنهم ، وإلى أهل البدع فلا نأخذ عنهم .

                                                      ونقل الحافظ أبو عبد الله الحاكم أن المرسل ليس بحجة عن إمام التابعين سعيد بن المسيب ، ومالك بن أنس ، وجماعة من أهل الحديث ، ونقله غيره عن الزهري والأوزاعي ، وصح ذلك عن عبد الله بن المبارك ، وغيره . والثالث : أنه حجة يعمل به ، ولكن دون المسند ، كالشهود يتفاوتون في الفضل والمعرفة ، وإن اشتركا في العدالة . قال : وهو قول أبي عبد الله محمد بن أحمد بن إسحاق بن خويز منداد المالكي البصري .

                                                      والرابع : أنه لا يحتج به ، بل هو مردود ، ونقله عن سائر أهل الفقه ، وجماعة من أصحاب الحديث في كل الأمصار للإجماع على الحاجة إلى عدالة المخبر ، وأنه لا بد من علم ذلك . قال ابن عبد البر : ثم إني تأملت كتب المناظرين من أصحابنا وغيرهم . فلم أر أحدا منهم من خصمه إذا احتج عليه بمرسل ، ولا يقبل منه في ذلك خبرا مقطوعا ، وكلهم عند تحصيل المناظرة يطالب خصمه بالاتصال في الأخبار . قال : وسبب ذلك أن التنازع إنما يكون بين من لا يقبل المرسل ، وبين من يقبله . فإن احتج به من يقبله على من لا يقبله يقول له : فأت بحجة غيره ، وإن احتج به من لا يقبله على من يقبله ، قال له كيف تحتج علي بما ليس حجة عندك ؟ ونحو هذا ، ولم نشاهد نحن مناظرة بين مالكي يقبله ، وبين حنفي يذهب في ذلك مذهبه . ويلزم على أصل مذهبهما في ذلك قبول كل واحد خبر صاحبه المرسل إذا أرسله ثقة عدل ما لم يعترضه من الأصول ما يدفعه . قال : وأما الإرسال ممن عرف بالأخذ من الضعفاء والمسامحة في ذلك ، [ ص: 347 ] فلا يحتج به ، تابعيا كان أو من دونه وكل من عرف أنه لا يأخذ إلا عن ثقة فتدليسه ومرسله مقبول . ا هـ .

                                                      قلت : وعلى هذا لو لم نعلم هل يأخذ عن ثقة أو لا ؟ توقفنا فيه ، ولا نقبله للجهل بحال شيخه . فمراسيل سعيد بن المسيب ، ومحمد بن سيرين ، وإبراهيم النخعي ، عندهم صحاح ، وقالوا : مراسيل عطاء ، والحسن ، لا يحتج بها ; لأنهما كانا يأخذان عن كل أحد ، وكذا مراسيل أبي قلابة ، وأبي العالية . هذا حاصل كلام ابن عبد الله ، وقال أبو بكر الخطيب : لا خلاف بين أهل العلم أن إرسال الحديث الذي ليس بتدليس هو رواية الراوي عمن لم يعاصره ، أو لم يلقه ، كرواية ابن المسيب ، وعروة بن الزبير ومحمد بن المنكدر ، والحسن البصري ، وقتادة ، وغيرهم من التابعين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمثابته في غير التابعين ، كمالك ، والقاسم بن محمد ، وكذا حكم من أرسل حديثا عن شيخ لقيه ، ولم يسمع ذلك الحديث منه ، وسمع ما عداه . ثم قيل : هو مقبول ، إذا كان المرسل ثقة عدلا ، وهو قول مالك ، وأهل المدينة ، وأبي حنيفة ، وأهل العراق ، وغيرهم ، وقال الشافعي : لا يجب العمل به ، وعليه أكثر الأئمة من نقاد الأثر .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية