الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الفصل الثاني : عصمتهم من هذا قبل النبوة

          وأما عصمتهم من هذا الفن قبل النبوة فللناس فيه خلاف ، والصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بالله ، وصفاته ، والتشكك في شيء من ذلك .

          وقد تعاضدت الأخبار ، والآثار عن الأنبياء بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ ولدوا ، ونشأتهم على التوحيد والإيمان ، بل على إشراق أنوار المعارف ، ونفحات ألطاف السعادة ، كما نبهنا عليه في الباب الثاني من القسم الأول من كتابنا هذا .

          ولم ينقل أحد من أهل الأخبار أن أحدا نبئ ، واصطفي ممن عرف بكفر وإشراك قبل ذلك . ومستند هذا الباب النقل ، وقد استدل بعضهم بأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله .

          وأنا أقول إن قريشا قد رمت نبينا بكل ما افترته ، وعير كفار الأمم أنبياءها بكل ما أمكنها ، واختلقته ، مما نص الله - تعالى - عليه ، أو نقلته إلينا الرواة ، ولم نجد في شيء من ذلك تعييرا لواحد منهم [ ص: 468 ] برفضه آلهته ، وتقريعه بذمه بترك ما كان قد جامعهم عليه .

          ولو كان هذا لكانوا بذلك مبادرين ، ويتلونه في معبوده محتجين ، ولكان توبيخهم له بنهيهم عما كان يعبد قبل أفظع وأقطع في الحجة من توبيخه بنهيهم عن تركهم آلهتهم ، وما كان يعبد آباؤهم من قبل .

          ففي إطباقهم على الإعراض عنه دليل على أنهم لم يجدوا سبيلا إليه ، إذ لو كان لنقل ، وما سكتوا عنه ، كما لم يسكتوا عند تحويل القبلة ، وقالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها كما حكاه الله عنهم .

          وقد استدل القاضي القشيري على تنزيههم عن هذا بقوله - تعالى - : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك [ الأحزاب : 7 ] الآية . .

          وبقوله - تعالى - : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين [ آل عمران : 81 ] - إلى قوله - : لتؤمنن به ولتنصرنه [ آل عمران : 81 ] .

          قال : وطهره الله في الميثاق .

          وبعيد أن يأخذ منه الميثاق قبل خلقه ، ثم يأخد ميثاق النبيين بالإيمان به ، ونصره قبل مولده بدهور ، ويجوز عليه الشرك أو غيره من الذنوب . هذا ما لا يجوزه إلا ملحد .

          هذا معنى كلامه .

          وكيف يكون ذلك ، وقد أتاه جبريل - عليه السلام - ، وشق قلبه صغيرا ، واستخرج منه علقة ، وقال : هذا حظ الشيطان منك ، ثم غسله ، وملأه حكمة ، وإيمانا ، كما تظاهرت به أخبار المبدأ .

          ولا يشبه عليك بقول إبراهيم في الكوكب ، والقمر ، والشمس : هذا ربي فإنه قد قيل : كان هذا في سن الطفولية ، وابتداء النظر ، والاستدلال ، وقبل لزوم التكليف .

          وذهب معظم الحذاق من العلماء المفسرين إلى أنه إنما قال ذلك مبكتا لقومه ، ومستدلا عليهم .

          وقيل : معناه الاستفهام الوارد مورد الإنكار ، والمراد : فهذا ربي .

          قال الزجاج : قوله : هذا ربي [ الأنعام : 76 ] أي على قولكم ، كما قال : أين شركائي [ القصص : 74 ] أي عندكم .

          ويدل على أنه لم يعبد شيئا من ذلك ، ولا أشرك قط بالله طرفة عين : قول الله عز وجل عنه : إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون [ الشعراء : 70 ] .

          ثم قال : أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين [ الشعراء : 75 - 77 ] .

          وقال : إذ جاء ربه بقلب سليم [ الصافات : 74 ] ، أي من الشرك .

          وقوله : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [ إبراهيم : 35 ] .

          فإن قلت : فما معنى قوله : لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين [ الأنعام : 77 ] .

          قيل : إنه إن لم يؤيدني الله بمعونته أكن مثلكم في ضلالتكم ، وعبادتكم ، على معنى الإشفاق ، والحذر ، وإلا فهو معصوم في الأزل من الضلال .

          فإن قلت : فما معنى قوله : وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا ثم قال بعد عن الرسل : قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها [ الأعراف : 89 ] ، فلا يشكل عليك لفظة العود ، وأنها تقتضي أنهم إنما يعودون إلى ما كانوا فيه من ملتهم ، فقد تأتي هذه اللفظة في كلام العرب لغير ما ليس له ابتداء بمعنى الصيرورة ، كما جاء [ ص: 469 ] في حديث الجهنميين : [ عادوا حمما ] ، ولم يكونوا قبل كذلك .

          ومثله قول الشاعر :


          تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا



          وما كان قبل كذلك .

          فإن قلت : فما معنى قوله : ووجدك ضالا فهدى [ الضحى : 7 ] ، فليس هو من الضلال الذي هو الكفر ، قيل : ضالا عن النبوة فهداك إليها ، قاله الطبري .

          وقيل : وجدك بين أهل الضلال ، فعصمك من ذلك ، وهداك للإيمان وإلى إرشادهم .

          ونحوه عن السدي ، وغير واحد .

          وقيل : ضالا عن شريعتك ، أي لا تعرفها فهداك إليها .

          والضلال هنا التحير ، ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يخلو بغار حراء في طلب ما يتوجه به إلى ربه ، ويتسرع به حتى هداه إلى الإسلام ، قال معناه القشيري .

          وقيل : لا تعرف الحق ، فهداك إليه . وهذا مثل قوله - تعالى - : وعلمك ما لم تكن تعلم [ النساء : 113 ] الآية . قاله علي بن عيسى .

          قال ابن عباس : لم تكن له ضلالة معصية .

          وقيل : هدى ، أي بين أمرك بالبراهين .

          وقيل : وجدك ضالا بين مكة والمدينة ، فهداك إلى المدينة .

          وقيل : المعنى ، وجدك فهدى بك ضالا .

          وعن جعفر بن محمد : ووجد ضالا عن محبتي لك في الأزل ، أي لا تعرفها ، فمننت عليك بمعرفتي .

          وقرأ الحسن بن علي : ووجدك ضالا فهدى ، أي اهتدى بك .

          وقال ابن عطاء : ووجدك ضالا محبا لمعرفتي . والضال المحب كما قال : إنك لفي ضلالك القديم [ يوسف : 95 ] ، أي محبتك القديمة ، ولم يريدوا هاهنا في الدين ، إذ لو قالوا ذلك في نبي الله لكفروا .

          ومثله عند هذا قوله : إنا لنراها في ضلال مبين أي محبة بينة .

          وقال الجنيد : ووجدك متحيرا في بيان ما أنزل إليك فهداك لبيانه كقوله : وأنزلنا إليك الذكر [ النحل : 44 ] الآية . .

          وقيل : ووجدك لم يعرفك أحد بالنبوة حتى أظهرك ، فهدى بك السعداء ، ولا أعلم أحدا قال من المفسرين فيها : ضالا عن الإيمان .

          وكذلك في قصة موسى - عليه السلام - قوله : فعلتها إذا وأنا من الضالين [ الشعراء : 20 ] ، أي من المخطئين الفاعلين شيئا بغير قصد ، قاله ابن عرفة .

          وقال الأزهري : معناه من الناسين .

          وقد قيل ذلك في قوله : [ ص: 470 ] ووجدك ضالا فهدى أي ناسيا ، كما قال - تعالى - : أن تضل إحداهما [ البقرة : 282 ] . فإن قلت : فما معنى قوله : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان [ الشورى : 52 ] .

          فالجواب أن السمرقندي قال : معناه : ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان .

          وقال بكر القاضي نحوه ، قال : ولا الإيمان الذي هو الفرائض ، والأحكام ، قال : فكان قبل مؤمنا بتوحيده ، ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل ، فزاد بالتكليف إيمانا ، وهو أحسن وجوهه .

          فإن قلت : فما معنى قوله : وإن [ يوسف : 3 ] ؟ فاعلم أنه ليس بمعنى قوله : والذين هم عن آياتنا غافلون [ يونس : 7 ] ، بل حكى أبو عبد الله الهروي أن معناه لمن الغافلين عن قصة يوسف ، إذ لم تعلمها إلا بوحينا .

          وكذلك الحديث الذي يرويه عثمان بن أبي شيبة بسنده عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كان يشهد مع المشركين مشاهدهم ، فسمع ملكين خلفه ، أحدهما يقول لصاحبه : اذهب حتى تقوم خلفه . فقال الآخر : كيف أقوم خلفه ، وعهده باستلام الأصنام ؟ فلم يشهدهم بعد .

          فهذا حديث أنكره أحمد بن حنبل جدا ، وقال : هو موضوع ، أو شبيه بالموضوع .

          وقال الدارقطني : يقال إن عثمان وهم في إسناده .

          والحديث بالجملة منكر غير متفق على إسناده ، فلا يلتفت إليه .

          والمعروف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافه عند أهل العلم من قوله : بغضت إلي الأصنام .

          وقوله في الحديث الآخر الذي روته أم أيمن حين كلمه عمه ، وآله في حضور بعض أعيادهم ، وعزموا عليه فيه بعد كراهته لذلك ، فخرج معهم ، ورجع مرعوبا ، فقال : كلما دنوت منها من صنم تمثل لي شخص أبيض طويل يصيح بي : وراءك ، لا تمسه ، فما شهد بعد لهم عيدا .

          وقوله في قصة بحيرا حين استحلف النبي - صلى الله عليه وسلم - باللات والعزى إذ لقيه بالشام في سفرته مع عمه أبي طالب ، وهو صبي ، ورأى فيه علامات النبوة ، فاختبره بذلك ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تسألني بهما ، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما .

          فقال له بحيرا : فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه . فقال : سل عما بدا لك
          .

          وكذلك المعروف من سيرته - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 471 ] وتوفيق الله له أنه كان قبل نبوته يخالف المشركين في وقوفهم بمزدلفة في الحج ، فكان يقف هو بعرفة ، لأنه كان موقف إبراهيم - عليه السلام - .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية