الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مطلب : في مراتب الإنكار : وأضعفه بالقلب ثم لسانه وأقواه إنكار الفتى الجلد باليد ( وأضعفه ) أي أضعف مراتب الإنكار يكون ( بالقلب ) دون اللسان واليد فإن قيل أي تغيير حصل بإنكار القلب ؟ فالجواب المراد أن ينكر ذلك [ ص: 226 ] ولا يرضاه ، ويشتغل بذكر مولاه ، جل شأنه ، وتعالى سلطانه . وقد مدح الله تعالى العاملين بذلك تفضلا منه وإنعاما ، فقال { والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما } فإذا كره المؤمن المنكر ونوى بقلبه أنه لو قدر على تغييره لغيره كان في قوة تغييره له ، فإنه يجب على كل مؤمن إيجاب عين كراهة ما كرهه مولاه ومحبة ما يحبه ويرضاه .

وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الأحاديث الصحيحة الصريحة { إنما الأعمال بالنيات } و { الدين النصيحة } ( ثم ) أرقى من الإنكار بالقلب فقط الإنكار ب ( لسانه ) أي أن ينكر المنكر بلسانه بأن يصيح عليهم فيتركونه أو يسلط عليهم من يغيره ( وأقواه ) أي أقوى مراتب الإنكار ( إنكار الفتى ) أي الشخص المؤمن ( الجلد ) بسكون اللام أي القوي الشديد ، ويقال له جليد .

وفي حديث عمر { كان أجوف جليدا } أي قويا شديدا ، فهو صفة للفتى ( باليد ) متعلق بإنكار الفتى ، وهذا مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم { من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان } رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري .

وروى مسلم أيضا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { ما من نبي بعثه الله قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يقولون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل } .

وأخرج الإسماعيلي بإسناد ضعيف عن عمر رضوان الله عليه مرفوعا { يوشك هذه الأمة أن تهلك إلا ثلاثة نفر ، رجل أنكر بيده وبلسانه وبقلبه ، فإن جبن بيده فبلسانه وقلبه ، فإن جبن بلسانه ويده فبقلبه } .

وأخرج الإسماعيلي أيضا بإسناد منقطع عن علي رضوان الله عليه مرفوعا { ستكون بعدي فتن لا يستطيع المؤمن فيها أن يغير بيد ولا بلسان . قلت يا رسول الله وكيف ذلك ؟ قال ينكرونه بقلوبهم . قلت يا رسول الله وهل ينقص ذلك إيمانهم شيئا ؟ قال لا إلا كما ينقص القطر من الصفا } [ ص: 227 ] وخرجه الطبراني بمعناه من حديث عبادة بن الصامت بإسناد ضعيف مرفوعا .

فهذه الأخبار ونحوها دلت على وجوب إنكار المنكر بحسب الإمكان والقدرة عليه ، وأن الإنكار بالقلب لا بد منه ، فمن لم ينكر قلبه المنكر دل على ذهاب الإيمان من قلبه ، وقد قال علي رضوان الله عليه " إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ، ثم الجهاد بألسنتكم ، ثم الجهاد بقلوبكم ، فمن لم يعرف قلبه المعروف وينكر قلبه المنكر نكس فجعل أعلاه أسفله .

وسمع ابن مسعود رضي الله عنه رجلا يقول هلك من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر . فقال ابن مسعود : هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر . يشير إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرض لا يسقط عن أحد ، فمن لم يعرفه هلك . وأما الإنكار باللسان واليد فإنما يجب بحسب الطاقة .

وفي سنن أبي داود عن العرس بن عميرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها } .

قال الحافظ ابن رجب : فمن شهد الخطيئة فكرهها بقلبه كان كمن لم يشهدها إذا عجز عن إنكارها بلسانه ويده ، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها وقدر على إنكارها ولم ينكرها ، لأن الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات ويفوت به إنكار الخطيئة بالقلب وهو مرض على كل مسلم لا يسقط عن أحد في حال من الأحوال .

فأفهمنا كلامه رضوان الله عليه بأن قولهم إنكار المنكر فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقي على ما أسلفنا بأن مرادهم الإنكار باليد واللسان اللذين يحصل تغيير المنكر بهما أو بأحدهما ، وأما الإنكار بالقلب ففرض عين على كل مسلم . وهذه فائدة ينبغي التفطن لها .

وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من حضر معصية فكرهها فكأنه غاب عنها ، ومن غاب عنها فأحبها فكأنه حضرها } وهذا مثل الذي قبله .

قال الحافظ : فتبين بهذا أن الإنكار بالقلب فرض على كل مسلم في كل حال . فهذا صريح منه بما فهمناه من كلامه ، وهو ظاهر لا غبار عليه لأنه [ ص: 228 ] يجب على كل العالم إنكار ما يغضب الجبار جل شأنه وتعالى سلطانه .

وروى الإمام أحمد وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { إن الله تعالى ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره . فإذا لقن الله عبدا حجته قال يا رب رجوتك وفرقت الناس } .

وأما ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم { فيقول الله ما منعك أن تقول في كذا وكذا فيقول خشية الناس فيقول إياي كنت أحق أن تخشى } .

وما خرجه الترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد مرفوعا { ألا لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه } وبكى أبو سعيد وقال قد والله رأينا أشياء فهبنا . وخرجه الإمام أحمد وزاد فيه { فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقال بحق أو يذكر بعظيم } فمحمولات على أن المانع له من الإنكار مجرد الهيبة دون الخوف المسقط للإنكار .

قال شيخ الإسلام رحمه الله ورضي عنه : مراده صلى الله عليه وسلم في قوله يعني في الحديث السابق { ليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل } أنه لم يبق بعد هذا الإنكار ما يدخل في الإيمان حتى يفعله المؤمن بل الإنكار بالقلب آخر حدود الإيمان ، ليس مراده أن من لم ينكر لم يكن معه من الإيمان حبة خردل ، ولهذا قال وليس وراء ذلك ، فجعل المؤمنين ثلاث طبقات ، فكل منهم فعل الإيمان الذي يجب عليه . قال وعلم بذلك أن الناس يتفاضلون في الإيمان الواجب بحسب استطاعتهم مع بلوغ الخطاب إليهم . انتهى كلامه .

وقال المروذي : قلت لأبي عبد الله رضي الله عنه : كيف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ قال باليد واللسان وبالقلب وهو أضعف . قلت : كيف باليد ؟ قال يفرق بينهم .

ورأيت أبا عبد الله مر على صبيان الكتاب يقتتلون ففرق بينهم . وقال في رواية صالح : التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح . قال القاضي : وظاهر هذا جواز الإنكار باليد إذا لم يفض إلى القتل والقتال ، وينكر على من ترك ما يلزمه فعله بلا عذر . زاد في نهاية المبتدئين : بلا عذر ظاهر وجب الإنكار [ ص: 229 ] عليه وينكر على من ترك الإنكار المطلوب مع قدرته عليه . ولا ينكر سيف إلا مع سلطان .

وقال الإمام ابن الجوزي : الضرب باليد والرجل وغير ذلك مما ليس فيه إشهار سلاح أو سيف يجوز للآحاد بشرط الضرورة والاقتصار على قدر الحاجة ، فإن احتاج إلى أعوان يشهرون السلاح فلا بد من إذن السلطان على الصحيح لئلا يؤدي إلى الفتن وهيجان الفساد والمحن . .

التالي السابق


الخدمات العلمية