الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) طول [ ص: 295 ] المفسرون في تفسير هذين الهمين ، ونسب بعضهم ليوسف ما لا يجوز نسبته لآحاد الفساق ، والذي أختاره أن يوسف - عليه السلام - لم يقع منه هم بها البتة ، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول : لقد قارفت لولا أن عصمك الله ، ولا تقول : إن جواب لولا متقدم عليها وإن كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك ، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها ، وقد ذهب إلى ذلك الكوفيون ، ومن أعلام البصريين أبو زيد الأنصاري وأبو العباس المبرد . بل نقول : إن جواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه ، كما تقول جمهور البصريين في قول العرب : أنت ظالم إن فعلت ، فيقدرونه إن فعلت فأنت ظالم ، ولا يدل قوله : أنت ظالم على ثبوت الظلم ، بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل ، وكذلك هنا التقدير لولا أن رأى برهان ربه لهم بها ، فكان موجدا لهم على تقدير انتفاء رؤية البرهان ، لكنه وجد رؤية البرهان فانتفى الهم ، ولا التفات إلى قول الزجاج ، ولو كان الكلام ولهم بها كان بعيدا فكيف مع سقوط اللام ؟ لأنه يوهم أن قوله : ( وهم بها ) هو جواب لولا ، ونحن لم نقل بذلك ، وإنما هو دليل الجواب ، وعلى تقدير أن يكون نفس الجواب ، فاللام ليست بلازمة لجواز أن ما يأتي جواب " لولا " إذا كان بصيغة الماضي باللام ، وبغير لام تقول : لولا زيد لأكرمتك ، ولولا زيد أكرمتك ، فمن ذهب إلى أن قوله : ( وهم بها ) هو نفس الجواب لم يبعد ، ولا التفات لقول ابن عطية إن قول من قال : إن الكلام قد تم في قوله : ولقد همت به ، وإن جواب " لولا " في قوله : ( وهم بها ) ، وأن المعنى لولا أن رأى البرهان لهم بها فلم يهم يوسف - عليه السلام - ، قال : وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف ، انتهى .

أما قوله : يرده لسان العرب فليس كما ذكر ، وقد استدل من ذهب إلى جواز ذلك بوجوده في لسان العرب قال الله تعالى : ( إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين ) فقوله : ( إن كادت لتبدي به ) إما أن يتخرج على أنه الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل ، وإما أن يتخرج على ما ذهبنا إليه من أنه دليل الجواب ، والتقدير : لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به ، وأما أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك ، لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضا ، مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين ، فضلا عن المقطوع لهم بالعصمة ، والذي روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب ؛ لأنهم قدروا جواب " لولا " محذوفا ، ولا يدل عليه دليل ؛ لأنهم لم يقدروا لهم بها ، ولا يدل كلام العرب إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط ، لأن ما قبل الشرط دليل عليه ، ولا يحذف الشيء لغير دليل عليه ، وقد طهرنا كتابنا هذا عن نقل ما في كتب التفسير مما لا يليق ذكره ، واقتصرنا على ما دل عليه لسان العرب ومساق الآيات التي في هذه السورة مما يدل على العصمة وبراءة يوسف - عليه السلام - من كل ما يشين ، ومن أراد أن يقف على ما نقل عن المفسرين في هذه الآية فليطالع ذلك في تفسير الزمخشري وابن عطية وغيرهما .

والبرهان الذي رآه يوسف هو ما آتاه الله تعالى من العلم الدال على تحريم ما حرمه الله ، والله لا يمكن الهم به فضلا عن الوقوع فيه ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ) قال الزمخشري : الكاف منصوب المحل ؛ أي : مثل ذلك التثبيت ثبتناه ، أو مرفوعة ؛ أي : الأمر مثل ذلك . وقال ابن عطية : والكاف من قوله : ( كذلك ) متعلقة بمضمر تقديره : جرت أفعالنا وأقدارنا كذلك لنصرف ، ويصح أن تكون الكاف في موضع رفع بتقدير عصمته ، كذلك لنصرف ، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير تقديره : همت به وهم بها كذلك ، ثم قال : لولا أن رأى برهان ربه ، لنصرف عنه ما هم به ، انتهى . وقال الحوفي : كذلك الكاف للتشبيه في موضع نصب ؛ أي : أريناه البراهين كذلك ، وقيل : في موضع رفع ؛ أي : أمر البراهين كذلك ، والنصب [ ص: 296 ] أجود لمطالبة حروف الجر للأفعال أو معانيها ، وقال أبو البقاء : ( كذلك ) في موضع رفع ؛ أي : الأمر كذلك . وقيل : في موضع نصب ؛ أي : نراعيه كذلك ، انتهى . وأقول : إن التقدير مثل تلك الرؤية ، أو مثل ذلك الرأي ، نري براهيننا لنصرف عنه ، فتجعل الإشارة إلى الرأي أو الرؤية ، والناصب للكاف ما دل عليه قوله : ( لولا أن رأى برهان ربه ) . و ( لنصرف ) متعلق بذلك الفعل الناصب للكاف ، ومصدر رأى : رؤية ورأي قال :


ورأي عيني الفتى أباكا يعطي الجزيل فعليك ذاكا

وقرأ الأعمش : ( ليصرف ) بياء الغيبة عائدا على ربه ، وقرأ العربيان وابن كثير : ( المخلصين ) إذا كان فيه إلى حيث وقع بكسر اللام ، وباقي السبعة بفتحها ، وفي صرف السوء والفحشاء عنه وكونه من المخلصين دليل على عصمته .

25 : 29

التالي السابق


الخدمات العلمية