الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس وقرئ بكسر النون وسكون الجيم، وقرئ بفتح النون وكسر الجيم كـ(كبد) وقرئ بفتحهما (نجس).

                                                          والنجاسة هنا نجاسة معنوية لما امتلأت قلوبهم بالشرك، وجوارحهم بعبادة غير الله تعالى من أحجار وأشخاص، ومن التابعين من قال: إنهم أنجاس العين [ ص: 3273 ] كالخنازير، ولكن نجس العين يكون بأصل التكوين والخلق، وهؤلاء لم يخلقوا أنجاسا، ولكن خلقوا على الفطرة حنفاء، ولكن انحرفوا تقليدا لآبائهم، أو اتباعا لأهوائهم، فكانت النجاسة أمرا عارضا، وما يكون أمرا عارضا يكون قابلا للتغيير إذا رجعوا فلا يكون أمرا ذاتيا كنجاسة الخنازير، ولذا قال الأئمة أصحاب المذاهب: إن النجاسة نجاسة الشرك، فمصافحتهم تجوز، ومبايعتهم على الإيمان تجوز، وغير ذلك من الملامسات الجسدية.

                                                          وقوله تعالى: فلا يقربوا المسجد الحرام (الفاء) هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها; لأنهم إذا كانوا أنجاسا بشركهم لا يصح أن يدخلوا المسجد الحرام، و(لا) هنا ناهية داخلة على فعل للغائب; فهي دالة على نهي المؤمنين عن أن يدخلوهم المسجد الحرام، وأن يمنعوهم منعا باتا قاطعا، وعبر بالغيبة مبالغة في النهي، كأنهم نفذوا، وأخبر عنهم بأنهم لم يدخلوهم، وعبر في النهي بقوله تعالى: فلا يقربوا بدل (لا يدخلوا) مبالغة في النهي عن الدخول، وللدلالة على أنه يجب تطهير ما حول المسجد من الشرك والمشركين، وإذا كانوا لا يقربون المسجد الحرام فإنهم بالأولى لا يحجون ولا يعتمرون كما كانوا يفعلون في الجاهلية، وقد كانوا يتولون سقاية الحجيج، وسدانة البيت، فمنعوا من ذلك ومن كانوا يتولون السقاية والسدانة وبيدهم مفاتيح البيت في الجاهلية بقيت في أيديهم بعد أن أسلموا، فتولوها بصفتهم مسلمين غير مشركين بالله تعالى.

                                                          وإن النهي عن دخول المسجد الحرام يدل على حرمة دخوله بالنص، وعلى حرمة دخول غيره من المساجد بالقياس عليه، وبالنص المشير إلى ذلك بقوله: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار

                                                          [ ص: 3274 ] وإن رفعة المساجد في الآية الكريمة تومئ إلى ألا يدخلها من يشرك بالله أحجارا أو أشخاصا، أوصافهم تتنافى مع أوصاف الذين يسبحون فيها بالغدو والآصال.

                                                          ولقد كان حجيج المشركين من شتى البلاد العربية يوجدون رواجا ماديا بين أهل مكة، كما قال تعالى عن إبراهيم: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم

                                                          فإذا منع المشركون حرم سكان مكة - وهم المسلمون بعد الفتح - من ذلك الوفد الذي يجيء إليه، ولذا قال تعالى: وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء العيلة: الفقر إذا حرموا من أرفاق المشركين ومتاجرهم، وقد قدر الله خوفهم من الفقر، أو قلة المال إذا منع المشركون من الحج وقصد بيت الله الحرام فقال: وإن خفتم وعبر بـ(إن) للدلالة على أن تقدير الخوف مشكوك فيه منهم; لأن الإيمان يجعلهم يطمئنون ولا يخافون، ومع ذلك طمأنهم الله تعالى فأكد أنه سيغنيهم الله من فضله إن شاء، ونشير هنا إلى أمرين:

                                                          أولهما - أن قوله تعالى: فسوف يغنيكم الله من فضله (الفاء) فيها في جواب الشرط، و(سوف) لتأكيد وقوع الإغناء إن شاء الله تعالى في المستقبل، فالسين وسوف لتأكيد الوقوع في المستقبل.

                                                          ثانيهما - التعبير بقوله تعالى: من فضله إن شاء فذكر الفضل منسوبا إلى الله تعالى فيه إشارة إلى أنهم لا يرزقونكم بل الرزاق ذو القوة المتين هو الله الذي يرزقكم من فضله، وقوله: إن شاء بالتعليق على مشيئته سبحانه وتعالى فيه إشارة إلى:

                                                          أولا: بأن ذلك بمشيئته سبحانه إذا اتخذوا الأسباب، وإن ذلك حسب حكمته; يغنيهم إن لم يطغهم الغنى، ويحرمهم إن كان الحرمان يفطم نفوسهم، ويقوي إرادتهم ويعودهم الصبر، والصبر عزيمة الأمور.

                                                          ولذا ختم الآية الكريمة بقوله تعالت كلماته: إن الله عليم حكيم في الجملة تأكيد بالجملة الاسمية، وبـ(إن) وبتصدير الكلام بلفظ الجلالة الذي تتصف [ ص: 3275 ] ذاته الكريمة بكل كمال وجلال، وفي هذا التصدير دلالة على صدق ما وعد، و(عليم) يعلم كل شيء وما تعلمون وما لا تعلمون، و(حكيم) ويدبر الوجود بمقتضى حكمته.

                                                          وقد أنجز الله تعالى ما وعد، فقد أغنى الله تعالى أهل مكة ومن حولهم بالجزية والخراج، وإسلام أهل اليمن، وكان ذلك عقب الفتح، فجاءهم الحجيج بأرفاقهم، مسلمين غير مشركين، وما حرموا من خير كان يجيء إليهم، بل استمر ومعه زيادة، وهو يجيء طيبا من أطهار، وأرسل عليه السماء مدرارا، فأنبت الزرع وأثمر الشجر، وأتت الأنعام بالخير.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية