الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قال يا موسى استئناف مسوق لتسليته عليه السلام من عدم الإجابة إلى سؤاله على ما اقتضته الحكمة كأنه قيل: إن منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظام ما أعطيتك فاغتنمه وثابر على شكره؛ إني اصطفيتك أي اخترتك وهو افتعال من الصفوة بمعنى الخيار، والتأكيد للاعتناء بشأن الخبر على الناس الموجودين في زمانك، وهذا كما فضل قومه على عالمي زمانهم في قوله سبحانه: يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين برسالاتي أي بأسفار التوراة. وقرأ أهل الحجاز وروح: (برسالتي). وبكلامي أي: بتكليمي إياك بغير واسطة. أو الكلام على حذف مضاف أي: بإسماع كلامي، والمراد: فضلتك بمجموع هذين الأمرين، فلا يرد هارون عليه السلام لأنه لم يكن كليما على أن رسالته كانت تبعية أيضا، وكان مأمورا باتباع موسى عليه السلام، وكذلك لا يرد السبعون الذين كانوا معه عليه السلام في هذا الميقات في قول؛ لأنهم وإن سمعوا الخطاب إلا أنهم ليس لهم من الرسالة شيء، على أن المقصود بالتكليم الموجه إليه الخطاب هو موسى عليه السلام دونهم وبتخصيص الناس بما علمت خرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فلا يرد أن مجموع الرسالة والتكليم بغير واسطة وجد له عليه الصلاة والسلام أيضا على الصحيح، على أنا لو قلنا بأن التكليم بغير واسطة مخصوص به عليه السلام من بين الأنبياء صلى الله تعالى عليه وسلم لا يلزم منه تفضيله من كل الوجوه على غيره كنبينا عليه الصلاة والسلام، فقد يوجد في الفاضل ما لا يوجد في الأفضل، وإنما كان الكلام بلا واسطة سببا للشرف بناء على العرف الظاهر، وقد قالوا: شتان بين من اتخذه الملك لنفسه حبيبا وقربه إليه بلطفه تقريبا، وبين من ضرب له الحجاب والحجاب وحال بينه وبين المقصود بواب ونواب، على أن من ذاق طعم المحبة ولو بطرف اللسان يعلم ما في تكليم المحبوب بغير واسطة من اللطف العظيم والبر الجسيم، وكلامه جل شأنه لموسى عليه السلام في ذلك الميقات كثير على ما دلت عليه الآثار، وقد سبق لك ما يدل على كميته من حديث أبي هريرة.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والبيهقي من طريق جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «إن الله تعالى شأنه ناجى موسى عليه السلام بمائة ألف وأربعين ألف كلمة في ثلاثة أيام، فلما سمع كلام الآدميين مقتهم لما وقع في مسامعه من كلام الرب عز وجل، فكان فيما ناجاه أن قال: يا موسى، إنه لم يتصنع المتصنعون بمثل الزهد في الدنيا، ولم يتقرب إلي المتقربون بمثل الورع عما حرمت عليهم، ولم يتعبد المتعبدون بمثل البكاء من خشيتي، فقال موسى: يا رب، وإله البرية كلها ويا مالك يوم الدين، ويا ذا الجلال والإكرام، ماذا أعددت لهم وماذا جزيتهم؟ [ ص: 56 ] قال: أما الزاهدون في الدنيا فإني أبيحهم جنتي حتى يتبوءوا فيها حيث شاءوا، وأما الورعون عما حرمت عليهم فإذا كان يوم القيامة لم يبق عبد إلا ناقشته الحساب وفتشت عما في يديه إلا الورعون؛ فإني أجلهم وأكرمهم وأدخلهم الجنة بغير حساب، وأما الباكون من خشيتي فأولئك لهم الرفيق الأعلى لا يشاركهم فيه أحد».

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج آدم بن أبي إياس في كتاب العلم، عن ابن مسعود قال: لما قرب الله تعالى موسى نجيا أبصر في ظل العرش رجلا فغبطه بمكانه فسأله عنه فلم يخبره باسمه، وأخبره بعلمه فقال له: هذا رجل كان لا يحسد الناس على ما أتاهم الله تعالى من فضله، برا بالوالدين، لا يمشي بالنميمة. ثم قال الله تعالى: يا موسى، ما جئت تطلب؟ قال: جئت أطلب الهدى يا رب. قال: قد وجدت يا موسى. فقال: رب اغفر لي ما مضى من ذنوبي وما غبر وما بين ذلك وما أنت أعلم به مني، وأعوذ بك من وسوسة نفسي وسوء عملي. فقيل له: قد كفيت يا موسى. قال: يا رب، أي العمل أحب إليك أن أعمله؟ قال: اذكرني يا موسى. قال: رب، أي عبادك أتقى؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني. قال: رب، أي عبادك أغنى؟ قال: الذي يقنع بما يؤتى. قال: رب، أي عبادك أفضل؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال: رب، أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يطلب علم الناس إلى علمه لعله يسمع كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى. قال: رب، أي عبادك أحب إليك عملا؟ قال: الذي لا يكذب لسانه، ولا يزني فرجه، ولا يفجر قلبه. قال: رب، ثم أي: على أثر هذا؟ قال: قلب مؤمن في خلق حسن. قال: رب، أي عبادك أبغض إليك؟ قال: قلب كافر في خلق سيئ. قال: رب، ثم أي على أثر هذا؟ قال: جيفة بالليل بطال بالنهار.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات، وأبو يعلى، وابن حبان، والحاكم وصححه، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: قال موسى: يا رب، علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به؟ قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله. قال: يا رب، كل عبادك يقول هذا. قال: قل: لا إله إلا الله. قال: لا إله إلا أنت يا رب. إنما أريد شيئا تخصني به. قال: يا موسى، لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة قال: لما ارتقى موسى طور سينا رأى الجبار في أصبعه خاتما فقال: هل مكتوب عليه شيء من أسمائي أو كلامي؟ قال: لا. قال فاكتب عليه: لكل أجل كتاب.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم، عن العلاء بن كثير قال: إن الله تعالى قال: يا موسى، أتدري لم كلمتك؟ قال: لا يا رب، قال: لأني لم أخلق خلقا تواضع لي تواضعك.

                                                                                                                                                                                                                                      وللقصاص أخبار كثيرة موضوعة في أسئلة موسى عليه السلام ربه وأجوبته جل شأنه له، لا ينبغي لمسلم التصديق بها، فخذ ما آتيتك أي: أعطيتك من شرف الاصطفاء. وكن من الشاكرين أي: معدودا في عدادهم بأن يكون لك مساهمة كاملة فيهم، وحاصله: كن بليغ الشكر؛ فإن ما أنعمت به عليك من أجل النعم.

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج ابن أبي شيبة، عن كعب أنه قال: قال موسى عليه السلام: يا رب، دلني على عمل إذا عملته كان شكرا لك فيما اصطنعت إلي، قال: يا موسى، قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.

                                                                                                                                                                                                                                      قال: فكأن موسى أراد من العمل ما هو أنهك لجسمه مما أمر به فقال له: يا موسى، لو أن السموات السبع الخبر ... وهو في معنى ما في خبر أبي سعيد.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية