الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب )

قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره أوصياء اليتامى . يقول لهم : وأعطوا يا معشر أوصياء اليتامى : [ اليتامى ] أموالهم إذا هم بلغوا الحلم ، وأونس منهم الرشد [ ص: 525 ] "ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب" ، يقول : ولا تستبدلوا الحرام عليكم من أموالهم بأموالكم الحلال لكم ، كما : -

8436 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : " ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب" ، قال : الحلال بالحرام .

8437 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

8438 - حدثني سفيان قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : " ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " ، قال : الحرام مكان الحلال .

قال أبو جعفر : ثم اختلف أهل التأويل في صفة تبديلهم الخبيث كان بالطيب ، الذي نهوا عنه ، ومعناه .

فقال بعضهم : كان أوصياء اليتامى يأخذون الجيد من ماله والرفيع منه ، ويجعلون مكانه لليتيم الرديء والخسيس ، فذلك تبديلهم الذي نهاهم الله تعالى عنه .

ذكر من قال ذلك :

8439 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : " ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " ، قال : لا تعط زيفا وتأخذ جيدا .

8440 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن السدي وعن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب ومعمر عن الزهري ، قالوا : يعطي مهزولا ويأخذ سمينا .

8441 - وبه عن سفيان ، عن رجل ، عن الضحاك قال : لا تعط فاسدا ، وتأخذ جيدا . [ ص: 526 ]

8442 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " ، كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ويجعل مكانها الشاة المهزولة ، ويقول : "شاة بشاة"! ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف ، ويقول : "درهم بدرهم"!!

وقال آخرون : معنى ذلك : لا تستعجل الرزق الحرام فتأكله قبل أن يأتيك الذي قدر لك من الحلال .

ذكر من قال ذلك :

8443 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " ، قال : لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال الذي قدر لك .

8444 - وبه عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح مثله .

وقال آخرون : معنى ذلك ، كالذي : -

8445 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " ، قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا يورثون الصغار ، يأخذه الأكبر وقرأ ( وترغبون أن تنكحوهن ) قال : إذا لم يكن لهم شيء : ( والمستضعفين من الولدان ) [ سورة النساء : 127 ] ، لا يورثونهم . قال : فنصيبه من الميراث طيب ، وهذا الذي أخذه خبيث .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ، قول من قال : تأويل ذلك : ولا تتبدلوا أموال أيتامكم - أيها الأوصياء - الحرام عليكم الخبيث لكم ، [ ص: 527 ] فتأخذوا رفائعها وخيارها وجيادها . بالطيب الحلال لكم من أموالكم [ أي لا تأخذوا ] الرديء الخسيس بدلا منه .

وذلك أن"تبدل الشيء بالشيء" في كلام العرب : أخذ شيء مكان آخر غيره ، يعطيه المأخوذ منه أو يجعله مكان الذي أخذ .

فإذ كان ذلك معنى"التبدل" و"الاستبدال" ، فمعلوم أن الذي قاله ابن زيد من أن معنى ذلك : هو أخذ أكبر ولد الميت جميع مال ميته ووالده ، دون صغارهم ، إلى ماله - قول لا معنى له . لأنه إذا أخذ الأكبر من ولده جميع ماله دون الأصاغر منهم ، فلم يستبدل مما أخذ شيئا . فما"التبدل" الذي قال جل ثناؤه : " ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " ، ولم يتبدل الآخذ مكان المأخوذ بدلا؟

وأما الذي قاله مجاهد وأبو صالح من أن معنى ذلك : لا تتعجل الرزق الحرام قبل مجيء الحلال فإنهما أيضا ، إن لم يكونا أرادا بذلك نحو القول الذي روي عن ابن مسعود أنه قال : "إن الرجل ليحرم الرزق بالمعصية يأتيها" ، ففساده نظير فساد قول ابن زيد . لأن من استعجل الحرام فأكله ، ثم آتاه الله رزقه الحلال ، فلم يبدل شيئا مكان شيء . وإن كانا قد أرادا بذلك ، أن الله جل ثناؤه نهى عباده أن يستعجلوا الحرام فيأكلوه قبل مجيء الحلال ، فيكون أكلهم ذلك [ ص: 528 ] سببا لحرمان الطيب منه فذلك وجه معروف ، ومذهب معقول . يحتمله التأويل . غير أن أشبه [ القولين ] في ذلك بتأويل الآية ، ما قلنا; لأن ذلك هو الأظهر من معانيه ، لأن الله جل ثناؤه إنما ذكر ذلك في قصة أموال اليتامى وأحكامها ، فلأن يكون ذلك من جنس حكم أول الآية وآخرها ، [ أولى ] من أن يكون من غير جنسه .

التالي السابق


الخدمات العلمية