الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                ومنها أن لا يكون تحته حرة هو شرط جواز نكاح الأمة فلا يجوز نكاح الأمة على الحرة ، والأصل فيه ما روي عن علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا تنكح الأمة على الحرة } وقال علي : رضي الله عنه ( وتنكح الحرة على الأمة وللحرة الثلثان من القسم وللأمة الثلث ) ولأن الحرية [ ص: 267 ] تنبئ عن الشرف والعزة وكمال الحال ، فنكاح الأمة على الحرة إدخال على الحرة من لا يساويها في القسم ، وذلك يشعر بالاستهانة وإلحاق الشين ونقصان الحال وهذا لا يجوز ، وسواء كان المتزوج حرا أو عبدا عندنا ; لأن ما روينا من الحديث وذكرنا من المعنى لا يوجب الفصل .

                                                                                                                                وعند الشافعي يجوز للعبد أن يتزوج أمة على حرة بناء على أن عدم الجواز للحر عنده ; لعدم شرط الجواز وهو عدم طول الحرة ، وهذا شرط جواز نكاح الأمة عنده في حق الحر لا في حق العبد لما نذكر - إن شاء الله تعالى - وكذا خلو الحرة عن العدة شرط جواز نكاح الأمة عند أبي حنيفة .

                                                                                                                                وقال أبو يوسف ومحمد : يجوز أن يتزوج أمة على حرة تعتد من طلاق بائن أو ثلاث ( وجه ) قولهما : أن المحرم ليس هو الجمع بين الحرة والأمة بدليل أنه لو تزوج أمة ثم تزوج حرة جاز ، وقد حصل الجمع ، وإنما المحرم هو نكاح الأمة على الحرة .

                                                                                                                                وقال : صلى الله عليه وسلم { لا تنكح الأمة على الحرة } ولا يتحقق النكاح عليها بعد البينونة ألا ترى أنه لو حلف لا يتزوج على امرأته فتزوج بعدما أبانها في عدتها لا يحنث ولأبي حنيفة أن نكاح الأمة في عدة الحرة نكاح عليها من وجه ; لأن بعض آثار النكاح قائم فكان النكاح قائما من وجه ، فكان نكاحها عليها من وجه ، والثابت من وجه ملحق بالثابت من كل وجه في باب الحرمات احتياطا فيحرم كنكاح الأخت في عدة الأخت ونحو ذلك مما بينا فيما تقدم .

                                                                                                                                وأما عدم طول الحرة - وهو القدرة على مهر الحرة - وخشية العنت فليس من شرط جواز نكاح الأمة عند أصحابنا ، والحاصل أن من شرائط جواز نكاح الأمة عند أبي حنيفة أن لا يكون في نكاح المتزوج حرة ولا في عدة حرة .

                                                                                                                                وعندهما خلو الحرة عن عدة البينونة ليس بشرط ; لجواز نكاح الأمة ، وعند الشافعي من شرائط جواز نكاح الأمة أن لا يكون في نكاحه حرة وأن لا يكون قادرا على مهر الحرة وأن يخشى العنت حتى إذا كان في ملكه أمة يطؤها بملك اليمين جاز له أن يتزوج أمة عندنا ، وعنده لا يجوز لعدم خشية العنت ، وكذلك الحر يجوز له أن يتزوج أكثر من أمة واحدة عندنا ، وعنده إذا تزوج أمة واحدة لا يجوز له أن يتزوج أمة أخرى ; لزوال خشية العنت بالواحدة ، ولا خلاف في أن طول الحرة لا يمنع العبد من نكاح الأمة احتج الشافعي بقوله تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } ومن " كلمة شرط فقد جعل الله عز وجل العجز عن طول الحرة شرطا لجواز نكاح الأمة ، فيتعلق الجواز به كما في قوله تعالى : { فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا } ونحو ذلك .

                                                                                                                                وقال تعالى : { ذلك لمن خشي العنت منكم } وهو الزنا شرط سبحانه وتعالى خشية العنت ; لجواز نكاح الأمة ، فيتقيد الجواز بهذا الشرط أيضا ، ولأن جواز نكاح الإماء في الأصل ثبت بطريق الضرورة لما يتضمن نكاحهن من إرقاق الحر ; لأن ماء الحر حر تبعا له ، وكان في نكاح الحر الأمة إرقاق حر جزءا وإلى هذا أشار عمر رضي الله عنه فيما روي عنه أنه قال " ( أيما حر تزوج أمة فقد أرق نصفه وأيما عبد تزوج حرة فقد أعتق نصفه ) ولا يجوز إرقاق الجزء من غير ضرورة ، ولهذا إذا كان تحته حرة لا يجوز نكاح الأمة ، وهذا لأن الإرقاق إهلاك ; لأنه يخرج به من أن يكون منتفعا به في حق نفسه ويصير ملحقا بالبهائم ، وهلاك الجزء من غير ضرورة لا يجوز كقطع اليد ونحو ذلك ولا ضرورة حالة القدرة على طول الحرة ، فبقي الحكم فيها على هذا الأصل .

                                                                                                                                ولهذا لم يجز إذا كانت حرة لارتفاع الضرورة بالحرة بخلاف ما إذا كان المتزوج عبدا ; لأن نكاحه ليس إرقاق الحر ; لأن ماءه رقيق تبعا له ، وإرقاق الرقيق لا يتصور ولنا عمومات النكاح نحو قوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم } وقوله عز وجل : { فانكحوهن بإذن أهلهن } وقوله عز وجل : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } من غير فصل بين حال القدرة على مهر الحرة وعدمها ، ولأن النكاح عقد مصلحة في الأصل ; لاشتماله على المصالح الدينية والدنيوية ، فكان الأصل فيه هو الجواز إذا صدر من الأهل في المحل وقد وجدوا الآية ، ففيها إباحة نكاح الأمة عند عدم طول الحرة ، وهذا لا ينفي الإباحة عند وجود [ ص: 268 ] الطول ، فالتعليق بالشرط عندنا يقتضي الوجود عند وجود الشرط إما لا يقتضي العدم عند عدمه قال الله تعالى : { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة } ثم إذا تزوج واحدة جاز ، وإن كان لا يخاف الجور في نكاح المثنى والثلاث والرباع .

                                                                                                                                وقال تعالى في الإماء : { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } وهذا لا يدل على نفي الحد عنهن عند عدم الإحصان ، وهو التزوج ، وهو الجواب عن قوله عز وجل : { ذلك لمن خشي العنت منكم } على أن العنت يذكر ويراد به الضيق كقوله عز وجل : { ولو شاء الله لأعنتكم } أي : لضيق عليكم ، أي : من يضيق عليه النفقة والإسكان لترك الحرة بالطلاق وتزوج الأمة فالطول المذكور يحتمل أن يراد به القدرة على المهر ويحتمل أن يراد به القدرة على الوطء ; لأن النكاح يذكر ويراد به الوطء بل حقيقة الوطء على ما عرف فكان معناه فمن لم يقدر منكم على وطء المحصنات - وهي الحرائر - والقدرة على وطء الحرة إنما يكون في النكاح ، ونحن نقول به : إن من لم يقدر على وطء الحرة بأن لم يكن في نكاحه حرة يجوز له نكاح الأمة .

                                                                                                                                ومن قدر على ذلك بأن كان في نكاحه حرة لا يجوز له نكاح الأمة ، ونقل هذا التأويل عن علي رضي الله عنه فلا يكون حجة مع الاحتمال على أن فيها إباحة نكاح الأمة عند عدم طول الحرة ، وهذا تقديم وتأخير في الجواب عن التعليق بالآية .

                                                                                                                                وأما قوله : نكاح الأمة يتضمن إرقاق الحر ; لأن ماء الحر حر فنقول : إن عنى به إثبات حقيقة الرق فهذا لا يتصور ; لأن الماء جماد لا يوصف بالرق والحرية وإن عنى به النسب إلى حدوث رق الولد ، فهذا مسلم لكن أثر هذا في الكراهة لا في الحرية ، فإن نكاح الأمة في حال طول الحرة في حق العبد جائز بالإجماع ، وإن كان نكاحها مباشرة سبب حدوث الرق عندنا ، فكره نكاح الأمة مع طول الحرة .

                                                                                                                                ولو تزوج أمة وحرة في عقدة واحدة جاز نكاح الحرة وبطل نكاح الأمة ; لأن كل واحدة منهما على صاحبتها مدخولة عليها فيعتبر حالة الاجتماع بحال الانفراد فيجوز نكاح الحرة ; لأن نكاحها على الأمة حالة الانفراد جائز ، فكذا حالة الاجتماع ويبطل نكاح الأمة ; لأن نكاحها على الحرة وإدخالها عليها لا يجوز حالة الانفراد ، فكذا عند الاجتماع بخلاف ما إذا تزوج أختين في عقدة واحدة لأن المحرم هناك هو الجمع بين الأختين ، والجمع حصل بهما فبطل نكاحهما ، وهاهنا المحرم هو إدخال الأمة على الحرة لا الجمع ألا ترى أنه لو كان نكاح الأمة متقدما على نكاح الحرة جاز نكاح الحرة ، وإن وجد الجمع فكذلك إذا اقترن الأمران ، والله عز وجل أعلم .

                                                                                                                                وكذلك إذا جمع بين أجنبية وذات محارمه جاز نكاح الأجنبية ، وبطل نكاح المحرم ، ويعتبر حالة الاجتماع بحالة الانفراد ، وهل ينقسم المهر عليهما ؟ في قول أبي حنيفة ؟ لا ينقسم ويكون كله للأجنبية وعندهما ينقسم المسمى على قدر مهر مثلها .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية