الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الركن الثاني : الواجب عليه ، وهو كل آدمي تناوله عقد الإسلام أو الذمة ; لقوله - عليه السلام - : ( على اليد ما أخذت حتى ترده ) ، وهو عام فيما ذكرناه ، والقيد الأول : احتراز من البهيمة ; لقوله - عليه السلام - : ( جرح العجماء جبار ) ، والأخير احتراز من الحربي ، فإنه لا يضمن المغصوب في القضاء ، أما في الفتيا : فالمشهور مخاطبته بفروع الشريعة ، فيضمن عند الله تعالى ، ويبقى في الحد العامد والجاهل ، والغافل والعبد والحر ، والذمي ، لإجماع الأمة على أن العمد والخطأ في أموال الناس سواء ، قال صاحب المقدمات : يستوي المسلم والذمي ، والبالغ والأجنبي والقريب ، إلا الوالد من ولده ، والجد للأب من حفيده . قيل : لا يحكم له بحكم الغصب ; لقوله - عليه السلام - : ( أنت ومالك لأبيك ) والمسلم من المسلم والذمي ، أو الذمي من المسلم والذمي ; لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (من ظلم [ ص: 270 ] ذميا أو معاهدا لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة سنة ) . ويجتمع في الغصب حق الله تعالى ، وحق المغصوب منه إلا الصغير لا يعزر لعدم التحريم عليه ، وقيل : يؤدبه الإمام .

                                                                                                                قاعدة : حقه تعالى : أمره ونهيه ، وحق العبد مصالحه ، وكل حق للعبد ففيه حق لله تعالى ، وهو أمره بإيصال ذلك الحق لمستحقه ، هذا نص العلماء ، والحديث الصحيح خلافه ، ( سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما حق الله على العباد ؟ فقال : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ) . ففسر حقه تعالى بالمأمور دون الأمر ، فيحتمل أن يكون حقيقة فيتعين المصير إلى تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون العلماء ، ويحتمل التجوز بالمأمور عن الأمر فيوافق نصوص العلماء ، ثم قد ينفرد حق الله تعالى كالمعرفة والإيمان ، وقد ينفرد حق العبد كالديون والأثمان ، وقد يختلف العلماء إذا اجتمعا في أيهما يغلب ، كحد القذف ، من خصائص حق العبد وبه يعرف تمكنه من إسقاطه ، ومن خصائص حق الله تعالى : تعذر إسقاط العبد له وقبوله للتوبة محوا ، والتفسيق إثباتا .

                                                                                                                قاعدة : يعتمد المصالح المفاسد دون التحريم تحقيقا للاستصلاح ، وتهذيبا [ ص: 271 ] للأخلاق ، ولذلك تضرب البهائم إصلاحا لها ، والصبيان تهذيبا لأخلاقها ، ولذلك قيل : يهذب الصبي على الغصب ، وكذلك يضرب على الزنا والسرقة وغيرهما نفيا للفساد بين العباد لا للتحريم ، ولذلك قال ( ش ) - رضي الله عنه - : أحد الحنفي على شرب النبيذ ، وأقبل شهادته لمفسدة السكر ، وإفساد العقل المتوقع إذا لم يسكر من النبيذ لانتفاء التحريم بالتقليد ، وقال مالك - رحمة الله عليه - : أحده ولا أقبل شهادته بناء على أن التقليد في شرب النبيذ لا يصح ؛ لكونه على خلاف النص والقياس والقواعد .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في المقدمات : إذا كان الغاصب صبيا لا يعقل ، فقيل : ما أصابه من الأموال والديات هدر كالبهيمة ، وقيل : المال في ماله ، والدم على عاقلته إن كان الثلث فصاعدا كالخطأ ، وقيل : المال هدر ، والدم على عاقلته إن كان الثلث فصاعدا تغليبا للدماء على المال ، وحكم هذا حكم المجنون المغلوب على عقله .

                                                                                                                وأما حق المغصوب فيه : فرد المغصوب إن وجد ، أو قيمته يوم الغصب إن فقد ، وهو غير مثلي ، أو مثله في الموزون والمكيل والمعدود الذي لا تختلف آحاده كالبيض والجوز .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال ابن يونس : قال محمد : غاصب السكنى فقط كالمسودة حين دخلوا لا يضمن المنهدم من غير فعله ، بل قيمة السكنى ، ويضمن ما هو بفعله ، وغاصب الرقبة يضمنها مطلقا مع أجرة السكنى ، قال ابن القاسم : إذا نزل السلطان على مكتر فأخرجه وسكن . المصيبة على صاحب الدار لعدم وضع اليد على الرقبة ، بل على المنفعة ، ويسقط عن المكتري ما سكن السلطان لعدم تسليمه لما اكترى ، وعدم [ ص: 272 ] التمكن ، قال ابن القاسم : وغير السلطان في الدار والأرض يزرعها غصبا من مكتريها لا يسقط الكراء عن المكتري ; لأنه هو المباشر بالغصب دون المالك للرقبة إلا السلطان الذي لا يمنعه إلا الله تعالى ; لأنه كالأمر السماوي بخلاف من يمنعه من هو فوقه .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في الكتاب : إذا وهب لك طعاما أو إداما فأكلته ، أو ثوبا فلبسته حتى أبليته رجع مستحقه على الغاصب المليء ; لأنه المتعدي المسلط ، وإن كان معدما أو معجوزا عنه فعليك ; لأنك المنتفع بماله ، ولا ترجع أنت على الواهب بشيء لعدم انتفاعه وانتفاعك ، وكذلك لو أعارك الغاصب فنقصت بلبسك ، فلا ترجع على المعير بما تغرم ، فلو اكتريته فنقصته باللبس أخذ المستحق ثوبه منك وما نقصه اللبس ، وترجع على الغاصب بجميع الكراء كالمشتري ، قال ابن يونس : قال أشهب : إذا وهبك الغاصب فأبليت أو أكلت اتبع أيكما شاء لوجود سبب الضمان في حقكما . قال ابن القاسم : إن كان الواهب غير غاصب لم يتبع غير الموهوب المنتفع ، وهو خلاف ما له في كتاب الاستحقاق في مكري الأرض يحابي في كرائها ، ثم يطرأ أخوه وسواء بين المتعدي وغيره ، وهو أصله في المدونة : أن يبدأ بالرجوع على الواهب ، فإن أعدم فعلى الموهوب إلا أن يكون الواهب عالما بالغصب فكالغاصب في جميع الأمور ، ويرجع على أيهما شاء ، وقول أشهب أقيس ، ولا يكون الموهوب أحسن حالا من المشتري ، ووجه التبدئة بالغاصب : أن الظالم أحق أن يحمل عليه ، والفرق بين الموهوب والمشتري : أن المشتري إذا غرم رجع بالثمن ، والموهوب لا يرجع . قال سحنون : إذا كان المعير غاصبا لا يضمنه المالك النقص ، بل له أن يضمنه الجميع ، ولا شيء له على المستعير ، وإن كان الغاصب عديما بيع الثوب في القيمة واتبع المستعير بالأقل من تمام القيمة ، وما نقص لبس الثوب إلا أن يكون قد كان للغاصب مال وقت لباس المستعير ، ثم [ ص: 273 ] زال المال ، فلا يضمن المستعير شيئا لاتباعه الغاصب بالقيمة ، وإن شاء المستحق أخذ الثوب أو ما نقصه اللبس من المستعير فذلك له في عدم الغاصب ، قال ابن القاسم : ولو أكرى الغاصب الدابة فعطبت تحت المكتري فلا يتبع إلا الغاصب إن لم تعطب بفعل المشتري ، بخلاف ما أكله المكتري أو لبسه حتى أبلاه ، يغرمه المكتري ويرجع بالثمن على الغاصب . وعن مالك : إذا آجرته ليبلغ لك كتابا ولم يعلم أنه عبد فعطب ، ضمنه ، مثلما يتلف المشتري بنفسه ، فمن اشتراه أن لمستحقه تضمينه ، وفرق ابن القاسم بين العبد والدابة المكتراة ، وما بينهما فرق ، وكذلك لو لم يركبها وبعثها مع غيره إلى قرية . قال محمد : وهما سواء في الضمان ، قيل : لمحمد : قد قال مالك في المشتري يهدم الدار : لا يضمن . قال : قد قال في قطع الثوب : يضمن . والفرق أن الدار يقدر على إعادتها بخلاف الثوب ، وكسر الحلي كهدم الدار لعدم التلف ، وقاطع الثوب كذابح الشاة وكاسر العصا وباعث الغلام فيهلك - تلف له ، قال ابن يونس : ولو قال قائل : هدم الدار ، وذبح الشاة ، وكسر الحلي ، وركوب الدابة ، والبعث بها سواء ، لم أعبه لاستواء العمد والخطأ في الضمان .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في الكتاب : إذا أودع المغصوب لا ضمان على المودع إلا أن يتعدى ; لأن يد المودع كصندوقه ، وامرأته وعبده الذي يشيل متاعه .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال ابن يونس : قال سحنون : إذا قال : كنت غصبت ألف دينار وأنا صبي تلزمه ; ( لأن الصبي في ندم الضمان كالبالغ ، ولو قال : أقررت لك بألف وأنا صبي تلزمه ; لأن قوله ) وأنا صبي ندم .

                                                                                                                [ ص: 274 ] فرع

                                                                                                                قال : قال سحنون : إذا أكرهك العامل على دخول بيت رجل لتخرج منه متاعا لتدفعه إليه وفعلت ، ودفعته إليه ثم عزل ، لرب المتاع اتباع أيكما شاء ; لتعديه بالأمر ، وتعديك بالمباشرة ، فإن اتبعك رجعت عليه ، فإن غاب رب المتاع وعزل الأمير فلك مطالبته ; لأن رب المتاع قد يجيء ويطالبك . وقال ابن دينار في ظالم أسكن معلما دارك ليعلم ولده ، ثم مات ومت . يخير صاحب الدار بين ما لك وما له . وقال ابن أبي زيد في مخبر اللصوص بمطمرك ، أو غاصب ، يضمن الدال ، وقيل : لا . لضعف سبب الدلالة .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال : لو اتفقتما على أن يقر لك برق نفسه على أن تبيعه ويقاسمك الثمن ففعلت وهلكت ، ضمن المقر بالملك لثمن البائع لغروره بذلك . قاله محمد ، وكذلك لو بيع في المغانم وهو حر فسكت ; لأن سكوته تغرير . وقالوا في المتعدي عليك عند السلطان وهو يعلم أنه يتجاوز فيك إلى الظلم ، فقال مالك : عليه الأدب فقط ، وقيل : إن كان ظالما في شكواه ضمن ، أو مظلوما لا يقدر على النصفة إلا بالسلطان فلا شيء عليه لعذره في ذلك ، ويلزم السلطان الضمان متى قدر عليه ، وكذلك رسل السلطان في هذه التفرقة ، وقيل : ينظر إلى القدر الذي لو استأجر به على إحضارك فهو عليك ، ويفرق فيما زاد على ذلك بين المظلوم والظالم ، وأما الذي يكتب للسلطان أسماء جماعة فيقدمون وهو يعلم أنه يظلمهم بذلك فيغرم مع العقوبة ، وفيه خلاف .

                                                                                                                [ ص: 275 ] فرع

                                                                                                                قال : وقال عبد الملك : إذا جلست على ثوب رجل في الصلاة فيقوم فينقطع ، لا يضمن ; لأنه مما يعم في الصلوات والمجالس .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية