الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الركن الثالث : الواجب فيه . وهو الأموال ; لأنها متعلق الأغراض . فما لا مالية له لا حرمة له ، فلا يوجب الشرع اختصاصه بأحد ، فلا يتصور الغصب ، وعدم المالية إما شرعا فقط ، كالخنزير للحقارة الشرعية ، أو الآدمي الحر المشرف من الأعيان ، أو من المنافع كوطث البهائم للحقارة الشرعية ، أو الأثمان للسرف ، وإما شرعا وعادة كالقمل والبعوض من الأعيان ، والاستظلال والاستصباح من المنافع .

                                                                                                                وهاهنا أمور مترددة بين المالية وعدمها ، اختلف العلماء فيها ، فأذكرها ، وهي ثمانية فروع :

                                                                                                                الفرع الأول : في الكتاب : إذا غصب مسلم من مسلم خمرا فخللها فلربها أخذها لأنها حلت ، وليس للغاصب فيها ملك ولا صنيع يحتج به ، بخلاف الصبغ أو جلد ميتة غير مدبوغ ، ضمنه ، كما لا يباع كلب ماشية ، أو زرع ، أو ضرع ، وعلى قاتله قيمته ، قال ابن يونس : قال أشهب : لو كانت الخمر المتقدم ذكرها لذمي يخير في أخذها خلا أو قيمتها خمرا يوم الغصب ; لأنه يقر على ملكه الخمر ، والمعاوضة عليها من ذمي ، ونظر أشهب أيضا بالزرع الذي لم يبد صلاحه ، وبئر الماشية التي لا يجوز بيعها إذا اغتصبها فسقى بها زرعه فعليه قيمة ما سقى منها ، قال مالك : ويغرم قيمة الزرع على ما يرجى من تمامه ، ويخاف أن لو كان يحل بيعه . وقال ابن حنبل : يرد الخمر إذا تخللت للمسلم كما قلناه ، قال : ويرد الكلب المباح ، ولا يضمن جلد الميتة .

                                                                                                                [ ص: 276 ] لنا : قضاؤه - عليه السلام - بالغرة في الجنين مع امتناع بيعه ، وهو أصل تضمين ما يمتنع بيعه ; حيث ضمن ، وعن مالك : لا شيء في جلد الميتة غير المدبوغ قياسا على غير المتمول حيث كان ، قال إسماعيل ، إلا أن يكون لمجوسي ; لأنه عندهم يؤكل فهو كخمر الذمي ، قال اللخمي عن ابن القاسم : لا شيء في غير المدبوغ ، وإن دبغ فقيمة ما فيه من الدباغ ، قال اللخمي : إن دبغ فقيمة جميعه . وقد قال مالك : مرة يجوز بيعه ، وليس كل ما يثبت له ضمان المتعدي جاز بيعه ، ويختلف في جلود السباع قبل الدباغ وبعده إذا ذكيت ، قال مالك ، وابن القاسم : هي مذكاة ، ويجوز بيعها ، فعلى هذا يغرم الغاصب قيمتها ، وعلى قول : هي كجلود الميتة قبل الدباغ ، وإن أخذه من صاحبه حيا فعليه قيمة جلده على قول مالك ، خلافا لابن حبيب في عدم اعتباره .

                                                                                                                ويختلف في صفة تقويم الكلب المباح الاتخاذ ، فمن أجاز بيعه قوم على ذلك ، ومن منع رده إلى أحكام جلد الميتة للانتفاع لا للبيع ، ولا شيء في كلب الدار ; لأمر النبي بقتلها ، وإذا عاد الزرع أو الثمر اللذان لم يبد صلاحهما لقيمتهما بعد الحكم لم ينقض ، فإن عادا قبل الحكم فعن مالك : تسقط القيمة إن لم يكن فيه منفعة ، وإن كانت فيه منفعة قوم على غير الرجاء والخوف ، وقال أصبغ : على الرجاء والخوف ، قال : وأرى أن يرجع إلى ما يكشف عنه من الغيب حكم أم لا ، فإن تراخى الحكم وسلم زرع ذلك الموضع ، فقيمته على السلامة إن كان لا يسقى ، وإلا حط ما ينوب أجرة السقي ، وإن هلك زرع ذلك الموضع أو [ ص: 277 ] تمرهم ، فالقيمة على غير الرجاء إلا أن يكون غيره بعدما انتقل وزاد ، فالقيمة على ما انتقل إليه .

                                                                                                                الفرع الثاني : إن غصب عصيرا فصار خمرا ، كسرت عليه وغرم مثل العصير ، فإن صار العصير خلا خير بين أخذه أو مثل العصير لفواته بالتغير ، وفي ثمانية أبي زيد : إن كسر العصير وقد دخله عرق خل ولم يخلل ، فالقيمة على الرجاء والخوف ، كالثمرة .

                                                                                                                الفرع الثالث : قال : قال مالك : إن غصب حرا فباعه ، ثم تاب يطلبه فإن أيس منه ، ودى ديته إلى أهله .

                                                                                                                الفرع الرابع : قال : قال ابن القاسم : إذا ماتت أم الولد عند غاصبها غرم قيمتها لسيدها قيمة أم ولد لا عتق فيها ، قياسا على تضمين الجنين بالغرة ، ومنع سحنون كالحرة ، ووافق المشهور ( ش ) وابن حنبل ، ووافق سحنون ( ح ) ، ووافق سحنون إذا جنى عليها ، قاله في الجواهر : وقال المكاتب والمدبر كالقن ، ولم يحك فيهما خلافا لقوة شائبة الرق .

                                                                                                                الفرع الخامس : في الكتاب : إذا غصب خمر الذمي فأتلفها فعليه قيمتها ، يقومها من يعرف القيمة من المسلمين . وقاله ( ح ) خلافا لـ ( ش ) وابن حنبل في خمر الذمي وخنزيره ، ومنشأ الخلاف النظر إلى اعتقادهم ، ومقتضى عقد الذمة ، أو إلى شرعنا ، لنا : أن عمر - رضي الله عنه - كتب إليه عماله يسألونه عن الذمي يمر بالعاشر ومعه خمر ، فكتب إليهم : يبيعوها وخذوا منهم العشر من أثمانها ، ولم يخالفه أحد ، نقله أبو عبيد في كتاب الأموال ، وهو يدل على [ ص: 278 ] أنها من مالهم من ثلاثة أوجه : أحدها : أن أمر الإمام العادل بالبيع يدل على أن المبيع متمول ، وثانيها : إيجاب العشر في ثمنها ولا يجب إلا في متمول ، وثالثها : تسمية ما يقابلها ثمنا ، وهو لا يكون إلا في بيع صحيح عند الإطلاق ، ولا يصح البيع إلا في متمول ، وبالقياس على سائر أشريتهم وأموالهم ; لأن القضاء عليهم باعتقادهم لا باعتقاد القاضي أنه يوجب عليهم الحد فيها ويقضي لهم بثمنها إذا باعها من ذمي ، ويقرهم على مسها وشربها وجعلها صداقا ، وسائر التصرفات فيها ، وكذلك نقرهم على أنكحتهم الفاسدة عندنا ، فكذلك كونها مالا ومضمونة ; ولأن عقد الذمة وقع على إقرارهم على شربها ، والتصرف فيها بسقوط تضمينها نقضا لأمانهم وحملا للناس على إراقتها ، أو نقول : إن الخمر غير محرمة عليهم فتكون متمولة ، أما عدم تحريمها : فلأن الخمر كانت مباحة في صدر الإسلام ، ثم نزل قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر " - إلى قوله تعالى - : " ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة " فخصص بخطاب التحريم المؤمنين ، ولأنهم ليسوا من أهل الصلاة ، ولا عجب في استثناء بعض الأحكام عنهم بدليل سقوط الضمان والأداء عنهم ; ولأن أهل الذمة عصمت دماؤهم عن السفك . وأعراضهم عن الثلم ، وأموالهم عن النهب ، وأزواجهم عن الوطء ، مع وجود سبب عدم ذلك في الجميع وهو الكفر ، فكذلك الخمر لا تمنع مفسدة الإسكار تمولها وعصمتها . ويؤكده الإجماع على منع إراقتها ووجوب ردها مع بقاء عينها ، إنما الخلاف إذا تعدى فأتلفها ; ولأن الخمر يتعلق بها عندنا وجوب الحد ، وسقوط الضمان ، وقد خالف الذمي المسلم في [ ص: 279 ] الحد ، فيخالفه في سقوط الضمان قياسا لأحدهما على الآخر ، احتجوا : بأن الإسلام أعظم من عقد الذمة ، والإسلام لم يجعلها مالا ، فعقد الذمة أولى ; ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله سبحانه حرم الخمر وثمنه ، وحرم الخنزير وثمنه ، وحرم الكلب وثمنه ) والقيمة بدل الثمن ، ومنع الأصل منع للفرع ، وقياسا على البول والدم والميتة ; ولأنه ساوى المسلم في عدم القطع في سرقتها منه فيساويه في عدم ضمانها له ; ولأنها لو كانت مالا معصوما لما أريقت إذا أظهروها قياسا على سائر الأموال ، ولأن اعتقاد الذمي تمولها كفر فلا يترك اعتقاد الإسلام لاعتقاد الكفر ، ويدل على ذلك : أنهم يعتقدون العبد المرتد مالا ، ولا يضمن بالإتلاف المسلم للذمي ولا ذمي لمسلم ، ويعتقدون المصحف والشحوم ليس بمال ، ونضمنها لهم ويضمنونها لنا ، فلو ضمنا المسلم لضمن بالمثل ، ولما لم يضمنها بالمثل لم تكن مضمونة . والجواب عن الأول : أن عظم الإسلام أوجب له الكمال ، فلا تقر معه مفسدة ، وعقد الذمة لنقصه تثبت معه المفاسد بدليل ثبوت الكفر وغيره ، وعن الثاني : القول بالموجب ، فإن الثمن في الشرع ما نشأ عن العقد وهو محرم ، والقيمة ما نشأ عن الإتلاف ، وهي التي أوجبناها دون الثمن ، فلم يتناول الحديث صورة النزاع ; لأن قيمة أم الولد حلال ، وثمنها حرام ، والقيمة في قتل الصيد على المحرم حلال ، وثمنه حرام ، ومهر المجوسية حرام ، ومهر بضعها بالإتلاف حلال . وعن الثالث : أن البول غير متمول لهم ، وأما الميتة والدم فمنع بالحكم فيهما ، بل يضمنان لأنهما مال لهم ، ويأكلونهما ، ولو عدوا أيضا البول مالا ، قال أصحابنا : نضمنه أيضا ، وعن الرابع : الفرق أن المسلم لا يعدها مالا بخلافه ; ولأنه خالفه في التمكن من الشرب والتصرف فيخالفه في الضمان ، وعن الخامس : لو كانت لهم قافلة فيها خمر فمر بها قطاع الطريق [ ص: 280 ] وجب على الإمام حمايتهم والذب عنهم ، فدل على أنها كأنفسهم معصومة . وعن السادس : انتقاضه بالحد ; ولأن اعتقادهم التثليث والصاحبة والولد كفر ، وقد نزل اعتقاد الإسلام وأقررناهم على اعتقادهم ، وأما العبد المرتد : فلأنه لا يقر على دينه ، ولأنه أباح دم نفسه بالردة فهو كما لو أباحنا الذمي ماله أو خمره ، فإنه لا يضمن ، وأما المصحف فهم يعدونه مالا كلاما حسنا فصيحا ، يستحسنونه ويعلمونه أولادهم كالشعر الحسن ، ثم المصحف والشحوم حجة عليكم ، لأنا غلبنا في التضمين قول من يعتقدهما مالا فليكن الخمر مثله ، وعن السابع : أنها حرام على المسلم فلا يمكن أن يملك المثل حتى يبذله للذمي ، كما لو قتله بآلة اللواط فإن القصاص بالمثل ، ومع ذلك فنعدل إلى غيرها ، فهو مما عدل فيه عن المثل إلى القيمة للضرورة ، كالصبرة إذا جهل كيلها فإنها تضمن بالقيمة .

                                                                                                                تفريع : قال في الكتاب : يقضى بين أهل الذمة في غصب الخمر وإفسادها ، ولا يقضى بينهم في تظالمهم في الربا ، وترك الحكم أحب إلي ; لقول الله تعالى : " فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " ، في التنبيهات : وقع في بعض الروايات : يقومها أهل دينهم ، وعلى الأول اختصر المختصرون ، واختلف في تعميم قوله : ترك الحكم أحب إلي ، هل يختص بالربا أو يعم ؟ ومراده إذا طلبوا الحكم بينهم بغير حكم الإسلام ، أما حكم الإسلام فلا نكرهه ، وقيل : نكرهه ; لأن حكم الإسلام في حقهم غير متوجه كحكم الطلاق مثلا ، وفي التلقين اختلف في ضمان خمر الذمي وخنزيره .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية