الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائة

فمن الحوادث فيها قتل خالد بن عبد الله القسري ، وكان قد عمل لهشام خمس عشرة سنة إلا [ستة] أشهر على العراق ، وخراسان فلما ولي يوسف بن عمر أخذه وحبسه وعذبه لأجل انكسار الخراج ، فكتب هشام بتخلية سبيله فخلي سبيله في شوال سنة إحدى وعشرين فخرج إلى ناحية هشام ، فلم يأذن له في القدوم عليه ، وخرج زيد بن علي فقتل .

وكتب يوسف إلى هشام: إن أهل هذا البيت من بني هاشم قد كانوا هلكوا جوعا حتى كانت لقمة أحدهم قوت عياله . فلما ولي خالد العراق أعطاهم الأموال ، فقووا بها ، فتاقت نفوسهم إلى طلب الخلافة ، وما خرج زيد إلا عن رأى خالد ، فقال لرسوله: كذبت وكذب من أرسلك ، لسنا نتهم خالدا في طاعة ، وأقام خالد بدمشق حتى هلك هشام .

وقام الوليد فكتب إلى خالد: إن أمير المؤمنين قد علم حال الخمسين ألف ألف ، فأقدم على أمير المؤمنين ، فقدم فقال له: أين ابنك؟ قال: كنا نراه عند أمير المؤمنين ، قال: لا ، ولكنك خلفته للفتنة ، فقال: قد علم أمير المؤمنين أنا أهل بيت طاعة ، فقال: لتأتين به أو لأزهقن نفسك ، فقال له: هذا الذي أردت وعليه عولت ، والله لو كان تحت قدمي ما رفعتها ، فأمر الوليد صاحب حرسه بتعذيبه ، فعذبه فصبر [فحبسه] ، فقدم يوسف بن عمر فقال: أنا أشتريه بخمسين ألف ألف ، فأرسل الوليد إلى خالد يخبره ويقول: إن كنت تضمنها وإلا دفعتك إليه ، فقال: ما عهدت العرب تباع .

[ ص: 248 ]

فدفعه إلى يوسف فعذبه مرارا ، ثم أتى بعود فوضعه على قدميه ، وقامت عليه الرجال حتى كسرت قدماه ، فوالله ، ما تكلم ولا عبس ، ثم على ساقيه حتى كسرتا ، ثم على فخذيه ، ثم على حقويه ، ثم على صدره حتى مات .

ودفن بناحية الحيرة ، وذلك في المحرم سنة ست وعشرين ومائة .

وفيها: قتل الوليد بن يزيد ، قد ذكرنا أن الوليد كان مشتغلا باللعب واللهو ، معرضا عن الدين قبل الخلافة ، فلما وليها زاد ذلك فثقل أمره على رعيته وكرهوه ، ثم ضم إلى ذلك أنه فسد أمره مع بني عمه ومع اليمانية وهي أعظم جند الشام ، فضرب سليمان بن هشام مائة سوط ، وحلق رأسه ولحيته وغربه إلى عمان فحبسه بها ، فلم يزل بها حتى قتل الوليد ، وغضب الوليد على خالد بن عبد الله ، وكان يسميه يوسف الفاسق ، ورماه بنو هاشم بالكفر والزندقة وغشيان أمهات [أولاد] أبيه . وقالوا: إنه اتخذ مائة جامعة ، وكتب على كل جامعة اسم رجل من بني أمية ليقتله بها ، وكان أشدهم فيه قولا ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك ، وكان الناس إلى قوله أميل؛ لأنه كان يظهر النسك ، ويقول: ما يسعنا الرضى بالوليد ، حتى حمل الناس على الفتك به ، وأجمع على قتله قوم من قضاعة واليمانية من أهل دمشق خاصة ، فأتى قوم منهم خالد بن عبد الله ، فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم ، قالوا: فاكتم علينا ، قال: لا أسمي أحدا منكم .

ثم إن الوليد أراد الحج ، فخاف خالد أن يفتكوا به في الطريق ، فقال: يا أمير المؤمنين أخر الحج العام . قال: ولم؟ فلم يخبره ، فأمر بحبسه وأن يستأدي ما عليه من أموال العراق ، وبايع الناس يزيد بن الوليد سرا ، واجتمع عليه أكثر أهل دمشق ، وأجمع يزيد على الظهور ، فقيل للعامل: إن يزيد خارج ، فلم يصدق ، فأرسل يزيد أصحابه بين المغرب والعشاء ليلة الجمعة سنة ست وعشرين ومائة ، فمكثوا عند باب الفراديس حتى أذنوا العتمة ، فدخلوا فصلوا وللمسجد حرس ، وقد وكلوا بإخراج الناس من المسجد بالليل ، فلما صلى الناس صاح بهم الحرس ، وتبطأ أصحاب يزيد ، فجعلوا يخرجون من باب ويدخلون من آخر حتى لم يبق في المسجد غير الحرس وأصحاب يزيد ، فقبض أصحاب يزيد على الحرس جميعهم ، ومضى يزيد بن عنبسة إلى يزيد بن الوليد فأعلمه وأخذ بيده وقال: قم يا أمير المؤمنين وأبشر بنصر الله وعونه ، فقام وقال: [ ص: 249 ]

اللهم إن كان هذا لك رضا فأعني عليه وسددني ، فإن كان غير رضا فاصرفه عني بموت ، وأقبل في اثني عشر رجلا ، ثم اجتمع أصحابهم ، وأخذ خزان بيت المال وصاحب البريد ، وكل من يحذره ، وقبضوا سلاحا كثيرا من المسجد كان فيه . وخرج الوليد إلى حصن للعرب ، وقصده أصحاب يزيد فقاتلهم في جماعة معه ، وقال لأصحابه: من جاء برأس فله خمسمائة ، فجاء قوم بأرؤس ، فقال: اكتبوا أسماءهم ، فقال رجل: ما هذا يوم يعمل فيه بنسيئة ، فتفرق عنه أصحابه فدخل الحصن وأغلق الباب وقال: أما فيكم رجل له حسب وحياء أكلمه كلمة؟ فقال له يزيد بن عنبسة: كلمني ، قال: ألم أزد في أعطياتكم ، ألم أعط فقراءكم ، ألم أخدم زمناكم؟! فقال: ما ننقم عليك في أنفسنا ولكن ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله ، وشرب الخمر ، ونكاح أمهات أولاد أبيك ، واستخفافك بأمر الله ، فرجع إلى الدار فجلس وأخذ مصحفا وقال: يوم كيوم عثمان .

ثم إن أصحاب يزيد علوا حائط الدار ، وكان أول من علاه يزيد بن عنبسة ، فنزل إلى الوليد وسيف الوليد إلى جنبه ، فقال له ابن عنبسة: نح سيفك ، فقال له الوليد: لو أردت السيف لكان لي ولك حال غير هذه ، فأخذ بيد الوليد وهو يريد أن يحبسه ويؤامر فيه ، فنزل من الحائط عشرة ، فضربه أحدهم على رأسه ، وضربه آخر على وجهه ، واحتز آخر رأسه ، وقدم بالرأس على يزيد فسجد ، وكانوا قد قطعوا كفه ، فبعثوا بها إلى يزيد قبل الرأس ، فأمر يزيد بالرأس فطيف به في دمشق ثم نصب .

وكان يزيد قد جعل في رأس الوليد مائة ألف ، وانتهب الناس عسكره وخزانته .

[ ص: 250 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية