الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الفصل الثالث : معرفة الأنبياء بأمور الدنيا

          قال القاضي أبو الفضل - وفقه الله - : قد بان بما قدمناه عقود الأنبياء في التوحيد ، والإيمان والوحي ، وعصمتهم في ذلك ما بيناه .

          فأما ما عدا هذا الباب من عقود قلوبهم فجماعها أنها مملوءة علما ، ويقينا على الجملة ، وأنها قد احتوت من المعرفة ، والعلم بأمور الدين ، والدنيا ما لا شيء فوقه .

          ومن طالع الأخبار ، واعتنى بالحديث ، وتأمل ما قلناه ، وجده .

          وقد قدمنا منه في حق نبينا في الباب الرابع أول قسم من هذا الكتاب ما ينبه على ما وراءه إلا أن أحوالهم في هذه المعارف تختلف .

          فأما ما تعلق منها بأمر الدنيا فلا يشترط في هذه في حق الأنبياء العصمة من عدم معرفة الأنبياء ببعضها أو اعتقادها على خلاف ما هي عليه ، ولا وصم عليهم فيه ، إذ هممهم متعلقة بالآخرة ، وأنبائها ، وأمر الشريعة ، وقوانينها . وأمور الدنيا تضادها بخلاف غيرهم من أهل الدنيا الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، وهم عن الآخرة هم غافلون ، كما سنبين هذا في الباب الثاني إن شاء الله ، ولكنه لا يقال : إنهم لا يعلمون شيئا من أمر الدنيا ، فإن ذلك يؤدي إلى الغفلة ، والبله ، وهم المنزهون عنه ، بل قد أرسلوا إلى أهل الدنيا ، وقلدوا سياستهم ، وهدايتهم ، والنظر في مصالح دينهم ، ودنياهم ، وهذا لا يكون مع عدم العلم بأمور الدنيا بالكلية ، وأحوال الأنبياء ، وسيرهم في هذا الباب معلومة ، ومعرفتهم بذلك كله مشهورة .

          وأما إن كان هذا العقد مما يتعلق بالدين فلا يصح من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا العلم به ، ولا يجوز عليه جهله جملة ، لأنه لا يخلو أن يكون حصل عنده ذلك عن وحي من الله ، فهو لا يصح الشك منه فيه على ما قدمناه ، فكيف الجهل ، بل حصل له العلم اليقين . أو يكون فعل ذلك باجتهاده فيما لم ينزل عليه فيه شيء على القول بتجويز وقوع الاجتهاد منه في ذلك على قول المحققين ، وعلى مقتضى حديث أم سلمة : إني إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علي فيه شيء . خرجه الثقات .

          وكقصة أسرى بدر ، والإذن للمتخلفين على رأي بعضهم ، فلا يكون أيضا ما يعتقده مما يثمره اجتهاده إلا حقا ، وصحيحا .

          هذا هو الحق الذي لا يلتفت إلى خلاف من خالف فيه ممن أجاز عليه الخطأ في الاجتهاد ، لا على القول بتصويب المجتهدين الذي هو الحق والصواب عندنا ، ولا على القول الآخر بأن الحق [ ص: 472 ] في طرف واحد لعصمة نبي - صلى الله عليه وسلم - من الخطأ في الاجتهاد في الشرعيات ، ولأن القول في تخطئة المجتهدين إنما هو بعد استقرار الشرع ، ونظر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واجتهاده إنما هو فيما لم ينزل عليه فيه شيء ، ولم يشرع له قبل ، هذا فيما عقد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - قلبه ، فأما ما لم يعقد عليه قلبه من أمر النوازل الشرعية ، فقد كان لا يعلم منها أولا إلا ما علمه الله شيئا فشيئا حتى استقر علم جميعها عنده ، إما بوحي من الله أو إذن له أن يشرع في ذلك ، ويحكم بما أراه الله .

          وقد كان ينتظر الوحي في كثير منها ، ولكنه لم يمت حتى استقر علم جميعها عنده - صلى الله عليه وسلم - ، وتقررت معارفها لديه على التحقيق ، ورفع الشك ، والريب ، وانتفاء الجهل .

          وبالجملة فلا يصح منه الجهل بشيء من تفاصيل الشرع الذي أمر بالدعوة إليه ، إذ لا تصح دعوته إلى ما لا يعلمه .

          وأما ما تعلق بعقده من ملكوت السماوات والأرض وخلق الله - تعالى - وتعيين أسمائه الحسنى وآياته الكبرى وأمور الآخرة وأشراط الساعة وأحوال السعداء والأشقياء ، وعلم ما كان وما يكون مما لم يعلمه إلا بوحي فعلى ما تقدم من أنه معصوم فيه ، لا يأخذه فيما أعلم منه شك ولا ريب ، بل هو فيه على غاية اليقين ، لكنه لا يشترط له العلم بجميع تفاصيل ذلك ، وإن كان عنده من علم ذلك ما ليس عند جميع البشر ، لقوله : إني لا أعلم إلا ما علمني ربي . ولقوله : ولا خطر على قلب بشر فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين [ السجدة : 17 ] .

          وقول موسى للخضر : هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا [ الكهف : 66 ] .

          وقوله : أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، واستأثرت به في علم الغيب عندك .

          وقد قال الله - تعالى - : وفوق كل ذي علم عليم [ يوسف : 76 ] قال زيد بن أسلم ، وغيره : حتى ينتهي العلم إلى الله .

          وهذا ما لا خفاء به ، إذ معلوماته لا يحاط بها ، ولا منتهى لها .

          هذا حكم عقد النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوحيد ، والشرع ، والمعارف ، والأمور الدينية .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية