الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب ذكر أيوب عليه الصلاة والسلام

وهو أيوب بن أموص بن رازح بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم . نسبه ابن إسحاق .

وقال هشام بن محمد ، عن أبيه: أيوب بن رازح بن أموص بن العيرز بن العيص .

قال وهب بن منبه: كان أيوب في زمن يعقوب عليه السلام ، وكانت تحته بنت يعقوب ، وكان أبوه ممن آمن لإبراهيم يوم إحراقه . وأم أيوب بنت لوط النبي صلى الله عليهما فلوط جد أيوب لأمه .

وبعضهم يجعل أيوب بعد سليمان ، وبعضهم يقول: هو بعد يونس . والذي يقتضيه الصواب تقديمه ، على ما قد اخترنا .

ونبينا أيوب في زمن يعقوب ، وكان ينزل بالبثنية من أرض الشام ، وكان غنيا كثير الضيافة والصدقة ، وكان إبليس يومئذ لا يحجب من السماوات فسمع تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب ، فأدركه الحسد ، فقال: يا رب لو صدمت أيوب بالبلاء لكفرك ، فقال: اذهب فقد سلطتك على ماله ، ثم سلطه على أولاده ، ثم على جسده ، [ ص: 321 ] وصبرت معه زوجته [رحمة] بنت إفراييم بن يوسف بن يعقوب .

قال مجاهد: أول من أصابه الجدري أيوب .

وقال وهب: كان يخرج عليه مثل ثدايا النساء ثم يتفقأ .

أخبرنا محمد بن ناصر ، أخبرنا جعفر بن أحمد السراج ، أخبرنا الحسن بن علي بن المذهب ، أخبرنا أحمد بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا أبي ، حدثنا كثير بن هشام ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، قال: عرج الشيطان ، فقال: أي رب سلطني على أيوب ، قال: سلطتك على ماله وولده ولم أسلطك على جسده ، قال: فنزل فجمع جنوده ، فقال: إني سلطت على أيوب فأروني سلطانكم ، قال: فصاروا نيرانا ثم صاروا ماء .

قال: وبينا هم بالمغرب إذا هم بالمشرق ، فأرسل طائفة إلى زرعه وطائفة إلى إبله وطائفة إلى غنمه ، وقالوا: اعلموا أنه لا يعتصم منكم إلا بمعرفة ، فأتوه بالمصائب بعضها على إثر بعض .

قال: فجاء صاحب الزرع ، فقال: يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل على زرعك نارا فأحرقه . وجاء راعي الإبل ، فقال: يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل إلى إبلك عدوا فذهب بها . وجاء صاحب البقر ، فقال: يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل إلى بقرك عدوا فذهب بها . ثم جاء صاحب الغنم فقال مثل ذلك .

فقال: وجاء لبنيه فجمعهم في بيت أكبرهم ، فبينا هم يأكلون ويشربون فجمع أركان البيت ، فهدم عليهم البيت . قال: فجاء إلى أيوب في هيئة الغلام وفي أذنيه قرطان ، فقال: يا أيوب ألم تر إلى بنيك اجتمعوا في بيت أكبرهم يأكلون ويشربون ، فبينا هم كذلك إذ جاءت ريح فأخذت بأركان البيت فألقته عليهم ، فلو رأيتهم حين اختلطت دماؤهم ولحومهم وطعامهم وشرابهم ، فقال له أيوب: أين كنت أنت؟ قال: كنت معهم ، قال: فكيف أفلت ، قال: أفلت ، قال: أنت الشيطان ، قال: أنا الآن مثلي يوم خرجت [ ص: 322 ] من بطن أمي ، فقام فحلق رأسه ثم قام يصلي ، فأرن الشيطان رنة سمعها أهل السموات وأهل الأرض ، ثم عرج فقال: أي رب قد اعتصم وإني لا أستطيعه إلا بتسليطك فسلطني عليه ، قال: قد سلطتك على جسده ولم أسلطك على قلبه . قال: فنفخ تحت قدميه نفخة فصرخ من قرنه إلى قدمه حتى بدا حجاب بطنه ، وألقي عليه الرقاد .

قال: فقالت امرأته ذات يوم: يا أيوب قد والله نزل بي من الجهد والفاقة ، فبعت قرنا من قروني برغيف فأطعمك ، فادع ربك فليشفيك ، قال: ويحك كنا في النعماء سبعين عاما ، فاصبري حتى نكون في الضراء سبعين عاما .

قال: فكان في ذلك البلاء سبعين ، قال: فقعد الشيطان في الطريق ، فأخذ تابوتا يتطيب فأتته امرأة أيوب ، فقالت: يا عبد الله إن ها هنا إنسانا مبتلى فهل لك أن تداويه؟

قال: إن شاء فعلت على أن يقول لي كلمة واحدة إذا برأ ، يقول: أنت شفيتني ، قال: فأتته فقالت: يا أيوب إن ها هنا رجلا يزعم أنه يداويك على أن تقول له كلمة واحدة: أنت شفيتني ، قال: ويلك ذلك الشيطان ، لله علي إن شفاني الله أن أجلدك مائة جلدة ، فبينا هم كذلك إذ جاءه جبرئيل فأخذ بيده فقال: قم ، فقام ، فقال: اركض برجلك فركض فنبعت عين ، فقال: اشرب فشرب .

قال: ثم ألبسه حلة من الجنة وجاءت امرأته فقالت: يا عبد الله أين المبتلى الذي كان هاهنا لعل الذئاب ذهبت به أو الكلاب ، قال: فقال: ويحك لأنا أيوب قد رد الله إلي نفسي ، قال: فقالت: يا عبد الله لا تسخر بي ، قال: ويحك أنا أيوب ، فرد الله إليه ماله وولده بأعيانهم ومثلهم معهم ، وأمطر عليهم جرادا من ذهب .

قال: فجعل يأخذ الجراد بيده ثم يجعله في ثوبه فيأخذ فيجعل فيه ، فأوحى الله إليه: يا أيوب أما شبعت ، قال أيوب: من ذا الذي يشبع من فضلك ورحمتك؟!

قال: فأخذ ضغثا بيده فجلدها به . قال وكان الضغث مائة [شمراخ] فجلدها به جلدة واحدة .

[ ص: 323 ]

وبالإسناد حدثنا عبد الله ، حدثنا أبي ، حدثنا يزيد ، أخبرنا جرير بن حازم ، قال: سمعت عبد الله بن عبد بن عمير يقول: كان لأيوب أخوان فأتياه ذات يوم فوجدا له ريحا ، فقالا: لو كان الله علم من أيوب خيرا ما بلغ به كل هذا ، قال: فما سمع شيئا كان أشد عليه من ذلك ، فقال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة شبعانا وأنا أعلم مكان جائع فصدقني . قال: فصدق وهما يسمعان ، ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم ألبس قميصا قط وأنا أعلم مكان عار فصدقني . قال: فصدق وهما يسمعان ، ثم قال: ثم خر ساجدا ثم قال: اللهم لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي ، فكشف الله ما به .

وقال يزيد مرة أخرى: لو كان لأيوب عند الله خير ما بلغ به كل هذا .

وقال وهب بن منبه: كانت زوجته تختلف إليه بما يصلحه ، وكان قد اتبعه ثلاثة نفر على دينه ، فلما رأوا ما نزل به من البلاء بعدوا عنه .

قال الحسن: مكث أيوب مطروحا على كناسة سبع سنين وأشهرا ما يسأل الله أن يكشف ما به ، وما على وجه الأرض أكرم على الله من أيوب .

وروى ابن جريج عن عطاء ، عن ابن عباس: أن أيوب عليه السلام مكث في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات لم يتضعضع ولم يسأل العافية ، وكان يقول: يا رب إن كان هذا لك رضى فشدد ، وإن كان من سخط فاغفر .

قرأت على ابن ناصر ، عن سليمان بن إبراهيم [الأصبهاني] ، قال: أخبرنا عثمان بن أحمد الرقي ، أخبرنا محمد بن عمر بن حفص ، حدثنا أحمد بن الخليل القومسي ، حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ضمرة بن ربيعة ، عن بشير بن طلحة ، عن خالد بن الدريك قال: لما ابتلي أيوب قال لنفسه: قد نعمت سبعين سنة فاصبري على البلاء سبعين سنة .

قال علماء السير: كان عمر أيوب ثلاثا وسبعين سنة . وقال قوم: ثلاثا وتسعين سنة . وقيل: بل عاش مائة وستا وأربعين ، وأوصى عند موته إلى ابنه حومل .

[ ص: 324 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية