الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          باب الوقف على الهمز

                                                          وهو باب مشكل يحتاج إلى معرفة تحقيق مذاهب أهل العربية ، وأحكام رسم المصاحف العثمانية ، وتمييز الرواية ، وإتقان الدراية . قال الحافظ أبو شامة : هذا الباب من أصعب الأبواب نظما ونثرا في تمهيد قواعده ، وفهم مقاصده . قال : ولكثرة تشعبه أفرد له أبو بكر أحمد بن مهران المقرئ - رحمه الله - تصنيفا حسنا جامعا ، وذكر أنه قرأ على غير واحد من الأئمة فوجد أكثرهم لا يقومون به حسب الواجب فيه إلا الحرف بعد الحرف .

                                                          ( قلت ) : وأفرده أيضا بالتأليف أبو الحسن بن غلبون ، وأبو عمرو الداني ، وغير واحد من المتأخرين كابن بصخان ، والجعبري ، وابن جبارة ، وغيرهم ، ووقع لكثير منهم فيه أوهام سنقف عليها ، ولما كان الهمز أثقل الحروف نطقا وأبعدها مخرجا تنوع العرب في تخفيفه بأنواع التخفيف كالنقل ، والبدل ، وبين بين ، والإدغام ، وغير ذلك ، وكانت قريش وأهل الحجاز أكثرهم له تخفيفا ; ولذلك أكثر ما يرد تخفيفه من طرقهم كابن كثير من رواية فليح ، وكنافع من رواية ورش وغيره ، وكأبي جعفر من أكثر رواياته ولا سيما رواية العمري ، عن أصحابه ، عنه ، فإنه لم يكد يحقق همزة وصلا ، وكابن محيصن قارئ أهل مكة مع ابن كثير وبعده ، وكأبي عمرو ، فإن مادة قراءته عن [ ص: 429 ] أهل الحجاز ، وكذلك عاصم من رواية الأعشى ، عن أبي بكر من حيث إن روايته ترجع إلى ابن مسعود ، وأما الحديث الذي أورده ابن عدي وغيره من طريق موسى بن عبيدة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : ما همز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر ولا الخلفاء ، وإنما الهمز بدعة ابتدعوها من بعدهم . فقال أبو شامة الحافظ : هو حديث لا يحتج بمثله ؛ لضعف إسناده ، فإن موسى بن عبيدة هذا هو الزيدي ، وهو عند أئمة الحديث ضعيف .

                                                          ( قلت ) : قال الإمام أحمد : لا تحل الرواية عنه ، وفي رواية : لا يكتب حديثه . واعلم أنه من كانت لغته تخفيف الهمز ، فإنه لا ينطق بالهمز إلا في الابتداء ، والقصد أن تخفيف الهمز ليس بمنكر ولا غريب ، فما أحد من القراء إلا وقد ورد عنه تخفيف الهمز ، إما عموما وإما خصوصا ، كما قدمنا ذكره في الأبواب المتقدمة ، وقد أفرد له علماء العربية أنواعا تخصه ، وقسموا تخفيفه إلى واجب وجائز ، وكل ذلك أو غالبه وردت به القراءة ، وصحت به الرواية ، إذ من المحال أن يصح في القراءة ما لا يسوغ في العربية ، بل قد يسوغ في العربية ما لا يصح في القراءة ; لأن القراءة سنة متبعة ، يأخذها الآخر عن الأول ، ومما صح في القراءة وشاع في العربية الوقف بتخفيف الهمز وإن كان يحقق في الوصل ; لأن الوقف محل استراحة القارئ والمتكلم ; ولذلك حذفت فيه الحركات والتنوين ، وأبدل فيه تنوين المنصوبات ، وجاز فيه الروم والإشمام والنقل والتضعيف ، فكان تخفيف الهمز في هذه الحالة أحق وأحرى . قال ابن مهران : وقال بعضهم : هذا مذهب مشهور ولغة معروفة ، يحذف الهمز في السكت - يعني الوقف - كما يحذف الإعراب فرقا بين الوصل والوقف . قال : وهو مذهب حسن . وقال بعضهم : لغة أكثر العرب الذين هم أهل الجزالة والفصاحة ترك الهمزة الساكنة في الدرج والمتحركة عند السكت .

                                                          ( قلت ) : وتخفيف الهمز في الوقف مشهور عند علماء العربية ، أفردوا له بابا وأحكاما ، واختص بعضهم فيه بمذاهب عرفت بهم ونسبت إليهم كما نشير إليه - إن شاء الله تعالى - .

                                                          [ ص: 430 ] وقد اختص حمزة بذلك من حيث إن قراءته اشتملت على شدة التحقيق والترتيل والمد والسكت ، فناسب التسهيل في الوقف ; ولذلك روينا عنه الوقف بتحقيق الهمز إذا قرأ بالحدر ، كما سنذكره إن شاء الله . هذا كله مع صحة الرواية بذلك عنده وثبوت النقل به لديه . فقد قال فيه سفيان الثوري : ما قرأ حمزة حرفا من كتاب الله إلا بأثر .

                                                          ( قلت ) : وقد وافق حمزة على تسهيل الهمزة في الوقف حمران بن أعين ، وطلحة بن مصرف ، وجعفر بن محمد الصادق ، وسليمان بن مهران الأعمش في أحد وجهيه ، وسلام بن سليمان الطويل البصري ، وغيرهم ، وعلى تسهيل المتطرف منه هشام بن عمار في أحد وجهيه ، وأبو سليمان ، عن قالون في المنصوب المنون ، وسأبين أقسام الهمز في ذلك ، وأوضحه ، وأقربه ، وأكشفه ، وأهذبه ، وأحرره ، وأرتبه ، ليكون عمدة للمبتدئين ، وتذكرة للمنتهين ، والله تعالى الموفق .

                                                          ( فأقول ) الهمز ينقسم إلى ساكن ومتحرك . فالساكن ينقسم إلى متطرف ، وهو ما ينقطع الصوت عليه ، وإلى متوسط ، وهو ما لم يكن كذلك ، أما الساكن المتطرف فينقسم إلى لازم لا يتغير في حاليه ، وعارض يسكن وقفا ، ويتحرك بالأصالة وصلا ، فالساكن اللازم يأتي قبله مفتوح مثل ( اقرأ ) ومكسور مثل ( نبئ ) ولم يأت به في القرآن قبله مضموم ، ومثاله في غير القرآن ( لم يسؤ ) والساكن العارض يأتي قبله الحركات الثلاث ، فمثاله وقبله الضم ( كأمثال اللؤلؤ ، إن امرؤ ) ومثاله وقبله الكسر ( من شاطئ ، و يبدئ ، و قرئ ) ومثاله وقبله الفتح ( بدأ ، وقال الملأ . و عن النبإ ) وأما الساكن المتوسط فينقسم إلى قسمين : متوسط بنفسه ومتوسط بغيره . فالمتوسط بنفسه يكون قبله ضم نحو ( المؤتفكة ، و يؤمن ) وكسر نحو ( بئر ، و نبئنا ) ومفتوح نحو ( كأس ، و تأكل ) والمتوسط بغيره على قسمين : متوسط بحرف ، ومتوسط بكلمة . فالمتوسط بحرف يكون قبله فتح نحو ( فأووا ، وآتوا ) ولم يقع قبله ضم ولا كسر ، والمتوسط بكلمة يكون قبله ضم نحو ( قالوا ايتنا ، والملك ايتوني ) وكسر نحو ( الذي اؤتمن ، [ ص: 431 ] والأرض ايتنا ) وفتح نحو ( الهدى ايتنا ، وقال ايتوني ) فهذه أنواع الهمز الساكن ، وتخفيفه أن يبدل بحركة ما قبله ، إن كان قبله ضم أبدل واوا ، وإن كان قبله كسر أبدل ياء ، وإن كان قبله فتح أبدل ألفا ، وكذلك يقف حمزة من غير خلاف عنه في ذلك إلا ما شذ فيه ابن سفيان ، ومن تبعه من المغاربة كالمهدوي ، وابن شريح ، وابن الباذش من تحقيق المتوسط بكلمة لانفصاله وإجراء الوجهين في المتوسط بحرف لاتصاله ، كأنهم أجروه مجرى المبتدأ ، وهذا وهم منهم وخروج عن الصواب ، وذلك أن هذه الهمزات وإن كن أوائل الكلمات فإنهن غير مبتدآت ؛ لأنهن لا يمكن ثبوتهن سواكن إلا متصلات بما قبلهن ; فلهذا حكم لهن بكونهن متوسطات . ألا ترى أن الهمزة في ( فأووا ، وأمر ، وقال ايتوني ) كالدال في ( فادع ) والسين في ( فاستقم ) والراء في ( قال ارجع ) فكما أنه لا يقال : إن الدال والسين والراء في ذلك مبتدآت ولا جاريات مجرى المبتدآت ، فكذلك هذه الهمزات ، وإن وقعن فاء من الفعل ، إذ ليس كل فاء تكون مبتدأة ، أو جارية مجرى المبتدأ ، ومما يوضح ذلك أن من كان مذهبه تخفيف الهمز الساكن المتوسط غير حمزة كأبي عمرو ، وأبي جعفر ، وورش فإنهم خففوا ذلك كله من غير خلف عن أحد منهم ، بل أجروه مجرى يؤتى ويؤمن ويألمون ، فأبدلوه من غير فرق بينه وبين غيره ، وذلك واضح ، والله أعلم .

                                                          والعجب أن ابن الباذش نسب تحقيق هذا القسم لأبي الحسن بن غلبون وأبيه وابن سهل ، والذي رأيته نصا في " التذكرة " ، هو الإبدال بغير خلاف ، والله أعلم .

                                                          ( واختلف ) أئمتنا في تغيير حركة الهاء مع إبدال الهمزة ياء قبلها في قوله : ( أنبئهم ) في البقرة و ( نبئهم ) في الحجر ، فكان بعضهم يروي كسرها لأجل الياء كما كسر لأجلها في نحو ( فيهم ، و يؤتيهم ) فهذا مذهب أبي بكر بن مجاهد ، وأبي الطيب ابن غلبون ، وابنه أبي الحسن ، ومن تبعهم . وكان آخرون يقرؤنها على ضمتها ; لأن الياء عارضة ، أو لا توجد إلا في التخفيف فلم يعتدوا بها ، وهو اختيار ابن مهران ، ومكي ، والمهدوي ، وابن سفيان ، والجمهور ، وقال أبو الحسن بن غلبون : كلا الوجهين [ ص: 432 ] حسن . وقال صاحب " التيسير " : وهما صحيحان . وقال في " الكافي " : الضم أحسن .

                                                          ( قلت ) : والضم هو القياس ، وهو الأصح ، فقد رواه منصوصا محمد بن يزيد الرفاعي صاحب سليم ، وإذا كان حمزة ضم هاء ( عليهم ، و إليهم ، و لديهم ) من أجل أن الياء قبلها مبدلة من ألف ، فكان الأصل فيها الضم : فضم هذه الهاء أولى وآصل ، والله أعلم .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية