الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان

                                                                                                                                                                                                                                      إذ يوحي ربك إلى الملائكة منصوب بمضمر مستأنف، خوطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - بطريق التجريد حسبما تنطق به الكاف، لما أن المأمور به مما لا يستطيعه غيره - صلى الله عليه وسلم - فإن الوحي المذكور قبل ظهوره بالوحي المتلو على لسانه - صلى الله عليه وسلم - ليس من النعم التي يقف عليها عامة الأمة كسائر النعم السابقة التي أمروا بذكر وقتها بطريق الشكر، وقيل: منصوب بقوله تعالى: ويثبت به الأقدام فلا بد حينئذ من عود الضمير المجرور في به إلى الربط على القلوب ليكون المعنى: ويثبت أقدامكم بتقوية قلوبكم وقت إيحائه إلى الملائكة وأمره بتثبيتهم إياكم، وهو وقت القتال، ولا يخفى أن تقييد التثبيت المذكور بوقت مبهم عندهم ليس فيه مزيد فائدة، وأما انتصابه على أنه بدل ثالث من (إذ يعدكم) كما قيل فيأباه تخصيص الخطاب به - صلى الله عليه وسلم - مع ما عرفت من أن المأمور به ليس من الوظائف العامة للكل كسائر أخواته، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره - صلى الله عليه وسلم - من التنويه والتشريف ما لا يخفى، والمعنى: اذكر وقت إيحائه تعالى إلى الملائكة أني معكم أي: بالإمداد والتوفيق في أمر التثبيت، فهو مفعول يوحي، وقرئ بالكسر على إرادة القول، أو إجراء الوحي مجراه، وما يشعر به دخول كلمة (مع) من متبوعية الملائكة إنما هي من حيث إنهم المباشرون للتثبيت صورة، فلهم الأصالة من تلك الحيثية كما في أمثال قوله تعالى: (إن الله مع الصابرين)، والفاء في قوله تعالى: فثبتوا الذين آمنوا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإن إمداده تعالى إياهم من أقوى موجبات التثبيت.

                                                                                                                                                                                                                                      واختلفوا في كيفية التثبيت، فقالت جماعة: إنما أمروا بتثبيتهم بالبشارة وتكثير السواد ونحوهما مما تقوى به قلوبهم، وتصح عزائمهم ونياتهم، ويتأكد جدهم في القتال، وهو الأنسب بمعنى التثبيت وحقيقته التي هي عبارة عن الحمل على الثبات في موطن الحراب، والجد في مقاساة شدائد القتال.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روي أنه كان الملك يتشبه بالرجل الذي يعرفونه بوجهه، فيأتي ويقول: إنى سمعت المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفن، ويمشي بين الصفين فيقول: أبشروا فإن الله تعالى ناصركم، وقال آخرون: أمروا بمحاربة أعدائهم، وجعلوا قوله تعالى: سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب تفسيرا لقوله تعالى: أني معكم وقوله تعالى: فاضربوا ... إلخ تفسيرا لقوله تعالى: فثبتوا مبينا لكيفية التثبيت.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روي عن أبي داود المازني - رضي الله عنه - وكان ممن شهد بدرا أنه قال: اتبعت رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه، فوقعت رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي، وعن سهل بن حنيف - رضي الله عنه - أنه قال: لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فتقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف، وأنت خبير بأن قتلهم للكفرة مع عدم ملاءمته لمعنى تثبيت المؤمنين مما لا يتوقف على الإمداد بإلقاء الرعب فلا يتجه ترتيب الأمر به عليه بالفاء، وقد اعتذر الأولون بأن قوله تعالى: (سألقي)... إلخ ليس بنص فيما ذكر، بل يجوز أن يكون ذلك إثر قوله تعالى: فثبتوا الذين آمنوا تلقينا للملائكة ما يثبتونهم به [ ص: 11 ] كأنه قيل: قولوا لهم: سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا ... إلخ.

                                                                                                                                                                                                                                      فالضاربون هم المؤمنون، وأما ما قيل من أن ذلك خطاب منه تعالى للمؤمنين بالذات على طريق التلوين فمبناه توهم وروده قبل القتال وأنى ذلك؟! والسورة الكريمة إنما نزلت بعد تمام الوقعة، وقوله تعالى: فوق الأعناق أي: أعاليها التي هي المذابح أو الهامات واضربوا منهم كل بنان قيل: البنان أطراف الأصابع من اليدين والرجلين، وقيل: هي الأصابع من اليدين والرجلين، وقال أبو الهيثم: البنان المفاصل وكل مفصل بنانة، وقال ابن عباس، وابن جريج، والضحاك: يعني الأطراف، أي: اضربوهم في جميع الأعضاء من أعاليها إلى أسافلها، وقيل: المراد بالبنان الأداني وبفوق الأعناق الأعالي، والمعنى: فاضربوا الصناديد والسفلة، وتكرير الأمر بالضرب لمزيد التشديد والاعتناء بأمره، ومنهم متعلق به أو بمحذوف وقع حالا مما بعده.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية