الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 3304 ] القتال في غير الأشهر الحرم

                                                          قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنـزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون

                                                          بعد أن بين الله تعالى الأشهر الحرم وعبث المشركين - بين الجهاد؛ سيرا على نسق الأشهر الحرم في قوله تعالى: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم

                                                          [ ص: 3305 ] والقتال هنا قد تجاوز الجزيرة العربية إلى ما حولها من الشام، وتجاوز الوثنية إلى أهل الكتاب الذين يعبدون غير الله تعالى، وذلك في غزوة تبوك، فقد كانت في شدة القيظ، وكانت بعد أن ملأت الغنائم الجيوب، وبعد أن أخذ الترفه يغزو النفس المؤمنة، وهو آفة القوة.

                                                          أخذ يدعوهم إلى الجهاد، فكان منهم من أقعدته الدعة، والاستنامة إلى الراحة، فلم يكونوا كما كانوا من قبل إذا دعوا إلى الجهاد سارعوا إليه، ولذا عاتبهم الله تعالى فقال: يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم صدر النداء بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا للإشارة إلى أن موجب الإيمان كان يدعو إلى المبادرة لا إلى التثاقل، وقوله: (ما لكم) استفهام إنكاري بمعنى التوبيخ، معناه: أي شيء ثبت لكم فمنعكم من المبادرة إذا دعيتم، ثم صرح سبحانه بما تضمنه الاستفهام، وهو (اثاقلتم) أصلها تثاقلتم، وفي قراءة الأعمش (تثاقلتم) على أصل الاشتقاق ، وموضع الاستنكار هو التثاقل عندما قيل لكم انفروا و(إذا) متعلقة في الفعل المقدر في قوله تعالى: ما لكم والمعنى: أي شيء أثبت لكم حال ما قيل انفروا؟ اثاقلتم و(انفروا) معناه انتقلوا إلى الحرب، والجهاد في سبيل الله، فالنفير معناه الخروج إلى القتال.

                                                          وقوله تعالى: اثاقلتم إلى الأرض معناه تثاقلتم، وثقلت عليكم المبادرة إلى القتال مخلدين بأنفسكم إلى الأرض حيث الدعة والراحة، والاستظلال بظلها، والسكون، ويتضمن هذا المعنى أنهم رضوا بالتقاعد في الأرض وترك الرفعة والمقام المحمود في الجهاد، كقوله تعالى: ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض

                                                          والمعنى أنهم إذ تثاقلوا عن الجهاد رضوا البقاء في الأرض، فحقت عليهم الذلة.

                                                          [ ص: 3306 ] وقال تعالى فيما يترتب على تثاقلهم، وهو أن يكونوا قد تركوا الجهاد ورضوا بمتاع قليل، وتركوا متاع الآخرة الكثير، فقال تعالى: أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة الاستفهام للاستنكار التوبيخي، ومعناه أنكم إذا اثاقلتم عندما دعيتم إلى النفور في سبيل الله فقد رضيتم بأن تكون لكم الحياة الدنيا التي هي الدنية من الآخرة (من) هنا بمعنى بدل، أي رضيتم بالدنيا ونعيمها الزائل بدل الآخرة ونعيمها المقيم الدائم.

                                                          ولذا قال مقررا الفرق بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة ، فقال تعالت كلماته: فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل

                                                          (الفاء) هنا للإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر تقديره: إذا كنتم رضيتم ذلك فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قدر قليل ضئيل، وهنا إشارات بيانية نذكرها.

                                                          أولها - في التعبير بـ(اثاقلتم) فإن الصيغة بحالها من الإبدال في لفظها دلالة على استثقال النفور في سبيل الله، وما ذلك شأن المؤمنين المجاهدين الذين سبق لهم البلاء في الإسلام، ولهم في الجهاد سابقات كرام.

                                                          الثانية - في النفي والإثبات في قوله تعالى: فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل فإنه يفيد قصر متاع الدنيا، مهما يكن من إحساس وراحة بالنسبة للآخرة فما هو إلا قليل.

                                                          ولم يذكر متاع الآخرة لكثرته؛ ولأن الإيمان بها في ذاته سعادة غير محصورة، فهي علو في إدراك النعيم المقيم الثابت الدائم.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية