الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان ذلك ربما دعا السامع إلى أن يقول: ما للقادر لم يقبل بمن هذا شأنه إلى الخير؟ أجاب بأنه جبلهم من أول الأمر - وله أن يفعل في ملكه وملكه ما يريد - جبلة عريقة في الفساد، وجعل جواهرهم شريرة كجوهر العقرب التي لا تقبل التأديب بوجه ولا تمر بشيء إلا لسبته، فعلم سبحانه أنه لا خير فيهم فتركهم على ما علم منهم ولو علم الله أي: الذي له الكمال كله فيهم خيرا أي: قبولا للخير لأسمعهم أي: إسماعا هو الإسماع، وهو ما تعقبه الإجابة المستمرة. [ ص: 249 ] ولما كان علم الله تعالى محيطا، وجب أن يعلم كل ما كان حاصلا، فكان عدم علمه بوجود الشيء من لوازم عدمه، فلا جرم كان التقدير هنا: ولكنه لم يعلم فيهم خيرا، بل علم أنه لا خير فيهم فلم يسمعهم هذا الإسماع ولو أسمعهم وهم على هذه الحالة من عدم القابلية للخير إسماعا قسرهم فيه على الإجابة لتولوا أي: بعد إجابتهم وهم معرضون أي: ثابت إعراضهم مرتدين على أعقابهم، ولم يستمروا على إجابتهم لما جبلوا عليه من ملاءمة الشر ومباعدة الخير، فلم يريدوا الإسلام وأهله بعد إقبالهم إلا وهنا، وكما كان لأهل الردة الذين قتلوا مرتدين بعد أن كانوا دخلوا في الإسلام خوفا من السيف ورغبة في المال وهو من وادي ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه فإن علم الله تعالى أربعة أقسام: جملة الموجودات، وجملة المعدومات، وأن كل واحد من الموجودات لو كان معدوما كيف يكون حاله، وأن كل واحد من المعدومات لو كان موجودا كيف يكون حاله، والقسمان الأولان علم بالواقع، والآخران علم بالقدر، والآية من القسم الأخير، ولعمري إنا دفعنا إلى زمان أغلب من فيه على قريب من هذا الأمر، أجرأ الناس على الباطل، وأثبتهم في المصاولة فيه، وأوسعهم حبلا في التوصيل إليه، وأجبنهم عند الدعوة [ ص: 250 ] إلى الحق، وأسرعهم نكوصا عند الإقدام بعد جهد عليه، وألكنهم عند الجدال له، فصار ما كان مقدرا مفروضا حاصلا وموجودا، وكلمة: " لو " هنا يحتمل أن تكون هي التي يعلق بها أمر على آخر هو بضده أولى فيكون المراد أن المعلق وهو الثاني موجود دائما مثل قول عمر رضي الله عنه: نعم العبد صهيب رضي الله عنه! لو لم يخف الله لم يعصه، فالمراد هنا على هذا أنهم إذا كانوا يتولون مع الإسماع والإجابة، فتوليهم مع عدمهما أولى - نبه على ذلك الرازي، ويحتمل أن يكون على بابها من أن الجزأين بعدها منفيان، وانتفاء التولي إنما يكون خيرا إذا نشأ عن الإسماع المترتب على علم الخير فيهم، وأما عدمه لعدم إسماعهم الإسماع الموصوف لأنه لا خير فيهم فليس من الخير في شيء بل هو شر محض، التولي المنفي عنهم ليس هو الموجود منهم، بل هو الناشئ عن الإسماع الموصوف فلا يناقض ادعاؤه تحقق عنادهم وعدم انقيادهم، وتحقيقه أن المنفي إنما هو زيادة التولي الناشئة عن الإسماع، فالمعنى: ولو أسمعهم لزادوا إعراضا، فالمنفي في هذا السياق تلك الزيادة. والله الموفق.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية