الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائة

فمن الحوادث فيها هلاك شيبان بن عبد العزيز اليشكري . وكان السبب في ذلك أن الخوارج لما قتل الضحاك والخيبري بعده ولوا عليهم شيبان وبايعوه ، فقاتلهم مروان تسعة أشهر ، فلجئوا إلى الموصل واتبعهم مروان وخندق بإزائهم . فكتب مروان إلى يزيد بن عمر بن هبيرة يأمره بالمسير من قرقيسياء بجميع من معه إلى عبيدة بن سوار خليفة الضحاك بالعراق ، فلقي خيوله بعين التمر ، فقاتلهم عبيدة فهزمهم ، ثم تجمعوا لهم بالكوفة بالنخيلة فهزمهم ، ثم اجتمعوا بالصراة ومعهم عبيدة ، فقاتلهم [فقتل عبيدة] وهزم أصحابه ، [واستباح عسكرهم فلم يكن لهم بقية بالعراق ، وخرج شيبان وأصحابه] من الموصل فتبعهم مروان فمضوا إلى الأهواز ، فوجه مروان إلى عامر بن ضبارة ثلاثة نفر من قواده في ثلاثة آلاف ، وأمره باتباعهم إلى أن يستأصلهم ، فتبعهم فوردوا فارس فمضى شيبان إلى ناحية البحرين فقتل بها .

وكان مع شيبان سليمان بن هشام ، فركب مع مواليه وأهل بيته السفن إلى السند .

وقيل: كان ذلك في سنة ثلاثين .

[ ص: 270 ]

[إظهار الدعوة العباسية بخراسان ] .

وفي هذه السنة -أعني سنة تسع وعشرين ومائة- أمر إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أبا مسلم بالانصراف إلى شيعته بخراسان وأمرهم بإظهار الدعوة العباسية والتسويد . فقدم أبو مسلم مرو في أول شعبان . وقيل: في أول يوم من رمضان .

فدفع كتاب الإمام إلى سليمان بن كثير ، وكان فيه: أن أظهر دعوتك ولا تربص . فنصبوا أبا مسلم وقالوا: رجل من أهل البيت ، ودعوا إلى طاعة بني العباس ، وأرسلوا إلى كل من أجابهم قريب وبعيد ، فأمروه بإظهار أمرهم والدعاء [إليهم] .

ونزل أبو مسلم قرية من قرى خزاعة ، فبث دعاته في الناس ، فوجه النضر التميمي إلى مرو الروذ ، ووجه أبا عاصم عبد الرحمن بن سليمان إلى الطالقان ، ووجه أبا الجهم بن عطية إلى خوارزم .

فلما كانت ليلة الخميس لخمس بقين من رمضان عقد اللواء الذي بعث به للإمام على رمح طوله أربعة عشر ذراعا ، وعقد الراية التي بعث بها للإمام على لواء طوله ثلاثة عشر ذراعا . وكان اللواء يدعى الظل ، والراية تدعى السحاب ، وكان تأويل الاسمين عندهم أن السحاب يطبق الأرض ، وكذلك دعوة بني العباس تطبق الأرض . وتأويل الظل أن الأرض لا تخلو من الظل أبدا ، كذلك لا تخلو الأرض من خليفة عباسي ، ولبس السواد هو وسليمان بن كثير وأخوه [سليمان] ومواليه ومن أجاب [ ص: 271 ] الدعوة ، وأوقد النيران ، فتجمع أصحابه مغذين ، وقدم عليه من الأماكن من أجاب .

فلما كان يوم الفطر أمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يصلي به وبالشيعة ، ونصب له منبرا في العسكر ، وأمره أن يبدأ بالصلاة قبل الخطبة [بغير] أذان ولا إقامة -وكانت بنو أمية تبدأ بالخطبة بأذان ، ثم الصلاة بإقامة على صلاة يوم الجمعة ، ويخطبون على المنابر جلوسا في الأعياد والجمع- وأمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يكبر في الركعة الأولى ست تكبيرات ، وفي الثانية خمس تكبيرات -وكانت بنو أمية تكبر في الركعة الأولى أربع تكبيرات يوم العيد ، وفي الثانية ثلاث تكبيرات- فلما قضى سليمان بن كثير الصلاة والخطبة انصرف أبو مسلم [والشيعة إلى طعام قد أعده لهم أبو مسلم] ، فطعموا مستبشرين .

وكان أبو مسلم في أول الأمر يكتب إلى نصر بن سيار: الأمير نصر . فلما قوي أبو مسلم بمن معه بدأ بنفسه فكتب إلى نصر ، وأمر أن يقطع مادة نصر بن سيار من مرو الروذ ومن بلخ ، فوجه نصر خيلا لمحاربة أبي مسلم وذلك بعد ثمانية عشر شهرا من ظهوره ، فوجه إليه أبو مسلم مالك بن الهيثم الخزاعي ، فالتقوا بقرية فانهزم أصحاب نصر ، وقتل منهم جماعة وجيء برؤوسهم ، فأمر أبو مسلم بنصب تلك الرؤوس ، فهي أول حرب كانت بين الشيعة العباسية وشيعة بني مروان .

وفي هذه السنة: غلب خازم بن خزيمة على مرو الروذ ، وقتل عامل نصر بن سيار الذي كان عليها ، وكتب بالفتح إلى أبي مسلم .

وفيها تحالف عامة من كان بخراسان من قبائل العرب على قتال أبي مسلم .

وذلك حين قوي أمره ، فبعث أبو مسلم النضر بن نعيم الضبي إلى هراة وعليها [ ص: 272 ] عيسى بن عقيل الليثي فطرده من هراة ، وضاق المنزل بأبي مسلم لكثرة عسكره ، فارتاد منزلا فسيحا وحفر به خندقا ، وذلك لتسع خلون من ذي القعدة . واستعمل على الشرطة مالك بن الهيثم وعلى الحرس خالد بن عثمان ، وعلى ديوان الجند كامل بن مظفر ، وعلى الرسائل مسلم بن صبيح .

وكان القاسم بن مجاشع يصلي بأبي مسلم الصلوات ، ويقص بعد العصر ، فيذكر فضل بني هاشم ومعايب بني أمية ، وكان أبو مسلم كرجل من الشيعة في هيئته حتى أتاه عبيد الله بن مسلم بالأروقة ، والفساطيط والمطابخ وحياض الأدم للماء .

وبلغت عدة أصحاب أبي مسلم سبعة آلاف ، فأعطى لكل رجل ثلاثة دراهم ، ثم أعطاهم أربعة أربعة ، وكتب نصر بن سيار إلى مروان يعلمه حال أبي مسلم وخروجه وكثرة من معه ، وأنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد ، وكتب بأبيات شعر:


أرى بين الرماد وميض جمر فأحر بأن يكون له ضرام     فإن النار بالعودين تذكى
وإن الحرب أولها الكلام     فقلت من التعجب ليت شعري
أأيقاظ أمية أم نيام

فكتب إليه مروان: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ، فاحسم الثؤلول قبلك ، فقال نصر: أما صاحبكم فقد أعلمكم أن لا نصر عنده . وجاء كتاب إبراهيم الإمام يلوم أبا مسلم أن لا يكون واثب نصرا ، وأمره ألا يدع بخراسان متكلما بالعربية إلا قتله .

وكتب مروان إلى الوليد بن معاوية بن عبد الملك وهو على دمشق أن يكتب إلى عامل البلقاء فليأخذ إبراهيم بن محمد ، ويشده وثاقا ، ويبعث به إليه في خيل ، فأخذه فحمله الوليد إلى مروان .

[ ص: 273 ]

وفي هذه السنة: وافى [الموسم] أبو حمزة الخارجي من قبل عبد الله بن يحيى مخالفا مروان بن محمد ، فلم يشعر الناس بعرفة إلا وقد طلعت أعلام سود ، فسألهم الناس: ما حالكم؟ فأخبروهم بخلافهم مروان وآل مروان والتبرؤ منهم .

فراسلهم عبد الواحد بن سليمان في الهدنة ، فقالوا: نحن بحجنا أضن ، فصالحهم على أنهم جميعا آمنون حتى ينفر الناس النفر الأخير ، ويصبحوا من الغد ، فوقفوا على حدة بعرفة . ودفع بالناس عبد الواحد ، ثم مضى إلى المدينة فضرب على الناس البعث .

وفيها: حج بالناس عبد الواحد ، وكان هو العامل على مكة والمدينة والطائف . وكان على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة ، وعلى قضاء الكوفة الحجاج بن عاصم المحاربي ، وعلى قضاء البصرة عباد بن منصور ، وعلى خراسان نصر بن سيار .

التالي السابق


الخدمات العلمية