الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان لمجيب ربما قال: ليس علي إلا الإجابة في خاصة نفسي، وليس علي تعريض نفسي للأذى بالأخذ على يد غيري، نبه سبحانه على أن ذلك منابذة للدين واجتثاث له من أصله؛ لأن ترك العاصي على عصيانه كترك الكافر على كفرانه، وذلك موجب لعموم البلاء، ومزيد القضاء فقال تعالى: واتقوا فتنة أي: بلاء مميلا محيلا إن لا تتقوه يعمكم، هكذا كان الأصل، لكن لما كان نهي الفتنة على إصابتهم [ ص: 257 ] أروع من سوق ذلك مساق الشرط ومن نهيهم عن التعريض لها لما فيه من تصوير حضورها وفهمها للنهي أتى به، ولما كان نهيها عن تخصيص الظالم أشد روعة لإفهامه، أمرها بأن تعم; قال مجيبا للأمر: لا تصيبن ولحقه نون التأكيد لأن فيه معنى النهي الذين ظلموا أي: فعلوا بموافقة المعصية ما لا يفعله إلا من لا نور له منكم أيها المأمورون بالتقوى خاصة أي: بل تعمكم، فهو نهي للفتنة والمراد نهي مباشرتها؛ أي: لا يفعل أحد منكم الذنب يصبكم أثره عموما أو لا يباشر أسباب العذاب بعضكم والبعض الآخر مقر له يعمكم الله به، وذلك مثل: لا أرينك هاهنا، والمعنى: فكن هاهنا فأراك. فالتقدير: واجعلوا بينكم وبين البلاء العام وقاية بإصلاح ذات بينكم واجتماع كلمتكم على أمر الله ورد من خالف إلى أمر الله ولا تختلفوا كما اختلفتم في أمر الغنيمة فتفشلوا فيسلط عليكم عذاب عام من أعدائكم أو غيرهم، فإن كان الطائع منكم أقوى من العاصي أو ليس أضعف منه فلم يرده فقد اشترك الكل في الظلم، ذلك بفعله وهذا برضاه، فيكون العذاب عذاب انتقام للجميع; روى أصحاب السنن الأربعة وحسنه الترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال في خطبة خطبها: أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية وتأولونها على خلاف تأويلها: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من قوم [ ص: 258 ] عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم فلم يفعل إلا يوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده"; وللترمذي وحسنه عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم"; وللإمام أحمد عنه رضي الله عنه أنه قال: لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتحاضن على الخير أو ليسحتنكم الله جميعا بعذاب أو ليؤمرن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لكم. وهو في حكم المرفوع لأنه لا يقال من قبل الرأي، فإن كان الطائع أضعف من العاصي نزل على ما روى أبو داود والترمذي - وحسنه - وابن ماجه عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أنه قيل له: "كيف تقول في هذه الآية: عليكم أنفسكم فقال: أما والله لقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام؛ فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله، قال: يا رسول الله! أجر خمسين رجلا منهم؟ قال: أجر خمسين منكم" والأحاديث في مثله كثيرة، [ ص: 259 ] وحينئذ يكون العذاب للعاصي نقمة وللطائع رحمة ويبعثون على نياتهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما حذرهم سبحانه عموم البلاء، أتبعه الإعلام بأنه قادر مربوب ليلزموا سبيل الاستقامة فقال: واعلموا أن الله أي الذي له الإحاطة بصفات العظمة شديد العقاب

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية