الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 437 ] 197

ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائة

ذكر حصار بغداذ

في هذه السنة حاصر طاهر ، وهرثمة ، وزهير بن المسيب - الأمين محمدا ببغداذ ، فنزل زهير بن المسيب الضبي برقة كلواذى ، ونصب المجانيق والعرادات ، وحفر الخنادق ، وكان يخرج في الأيام عند اشتغال الجند بحرب طاهر ، فيرمي بالعرادات ، ويعشر أموال التجار ، فشكا الناس منه إلى طاهر ، فنزل هرثمة نهربين ، وعمل عليه خندقا وسورا ، ونزل عبيد الله بن الوضاح بالشماسية ، ونزل طاهر البستان الذي بباب الأنبار .

فلما نزله شق ذلك على الأمين ، وتفرق ما كان بيده من الأموال ، فأمر ببيع ما في الخزائن من الأمتعة ، وضرب آنية الذهب والفضة ليفرقها في أصحابه ، وأمر بإحراق الحربية ، فرميت بالنفط والنيران وقتل بها خلق كثير .

واستأمن إلى طاهر سعيد بن مالك بن قادم ، فولاه الأسواق وشاطئ دجلة وما اتصل به ، وأمره بحفر الخنادق ، وبناء الحيطان في كل ما غلب عليه من الدروب ، وأمده بالأموال والرجال ، فكثر الخراب ببغداذ والهدم ، فدرست المنازل .

ووكل الأمين عليا افراهمرد بقصرصالح ، وقصر سليمان بن المنصور إلى دجلة ، فألح في إحراق الدور والدروب ، والرمي بالمجانيق ، وفعل طاهر مثل ذلك ، [ ص: 438 ] فأرسل إلى أهل الأرباض من طريق الأنبار وباب الكوفة وما يليها ، فكلما أجابه أهل ناحية خندق عليهم ، ومن أبى إجابته قاتله ، وأحرق منزله ، ووحشت بغداذ وخربت ، فقال حسين الخليع :

أتسرع الرحلة إغذاذا عن جانبي بغداذ أم ماذا ؟     أما ترى الفتنة قد ألفت
إلى أولي الفتنة شذاذا     وانتفضت بغداذ عمرانها
عن رأي لا ذاك ولا هذا     هدما وحرقا قد أباد أه
لها عقوبة لاذت بمن لاذا     ما أحسن الحالات إن
لم تعد بغداذ في القلة بغداذا



وسمى طاهر الأرباض التي خالفه أهلها ، ومدينة المنصور ، وأسواق الكرخ والخلد - دار النكث ، وقبض ضياع من لم يخرج إليه من بني هاشم والقواد وغيرهم ، وأخذ أموالهم ، فذلوا وانكسروا ، وذل الأجناد ، وضعفوا عن القتال ، إلا باعة الطريق ، والعراة ، وأهل السجون ، والأوباش ، والطرارين ، وأهل السوق ، فكانوا ينهبون أموال الناس .

وكان طاهر لا يفتر في قتالهم ، فاستأمن إليه علي افراهمرد ، الموكل بقصر صالح ، فأمنه وسير إليه جندا كثيفا ، فسلم إليه ما كان بيده من تلك الناحية ، في جمادى الآخرة ، واستأمن إليه محمد بن عيسى ، صاحب شرطة الأمين ، وكان مجدا في نصرة الأمين ، فلما استأمن هذان إلى طاهر أشفى الأمين على الهلاك ، وأقبلت الغواة من العيارين وباعة الطريق ، والأجناد ، فاقتتلوا داخل قصر صالح قتالا عظيما ، قتل فيه من أصحاب طاهر جماعة كثيرة ، ومن قواده جماعة ، ولم تكن وقعة قبلها ولا بعدها أشد على طاهر منها .

[ ص: 439 ] ثم إن طاهرا كاتب القواد الهاشميين وغيرهم ، بعد أن أخذ ضياعهم ، ودعاهم إلى الأمان والبيعة للمأمون ، فأجابه جماعة ، منهم : عبد الله بن حميد بن قحطبة وإخوته ، وولد الحسن بن قحطبة ، ويحيى بن علي بن ماهان ، ومحمد بن أبي العباس الطائي . وكاتبه غيرهم وصارت قلوبهم معه .

وأقبل الأمين بعد وقعة قصر صالح على الأكل والشرب ، ووكل الأمر إلى محمد بن عيسى بن نهيك ، وإلى الهرش ، فكان من معهما من الغوغاء والفساق يسلبون من قدروا عليه ، وكان منهم ما لم يبلغنا مثله .

فلما طال ذلك بالناس خرج عن بغداذ من كانت به قوة ، وكان أحدهم إذا خرج أمن على ماله ونفسه ، وكان مثلهم كما قال الله : فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب .

وخرج عنها قوم بعلة الحج ، ففي ذلك يقول شاعرهم :

أظهروا الحج وما ينوونه     بل من الهرش يريدون الهرب
كم أناس أصبحوا في غبطة     وكل الهرش عليهم بالعطب



وقال بعض فتيان بغداذ :

بكيت دما على بغداذ لما     فقدت غضارة العيش الأنيق
تبدلنا هموما من سرور     ومن سعة تبدلنا بضيق
أصابتنا من الحساد عين     فأفنت أهلها بالمنجنيق
[ ص: 440 ] فقوم أحرقوا بالنار قسرا     ونائحة تنوح على غريق
وصائحة تنادي : واصباحا     وباكية لفقدان الشقيق
وحوراء المدامع ذات دل     مضمخة المجاسد بالخلوق
تفر من الحريق إلى انتهاب     ووالدها يفر إلى الحريق
وسالبة الغزالة مقلتيها     مضاحكها كلألاء البروق
حيارى هكذا ومفكرات     عليهن القلائد في الحلوق
ينادين الشفيق ولا شفيق     وقد فقد الشقيق من الشقيق
ومغترب قريب الدار ملقى     بلا رأس بقارعة الطريق
توسط من قتالهم جميعا     فما يدرون من أي الفريق
فما ولد يقيم على أبيه     وقد فر الصديق عن الصديق
ومهما أنس من شيء تولى     فإني ذاكر دار الرقيق



وقال الخريمي قصيدة طويلة نحو مائة وخمسين بيتا ، أتى فيها على جميع [ ص: 441 ] الحوادث ببغداذ ، في هذه الحرب ، تركتها لطولها .

وذكر أن قائدا من أهل خراسان ، من أصحاب طاهر ، من أهل النجدة والبأس ، خرج يوما إلى القتال ، فنظر إلى قوم عراة لا سلاح معهم ، فقال لأصحابه : ما يقاتلنا إلا من نرى استهانة بأمرهم ، واحتقارا لهم . فقيل له : نعم ! هؤلاء هم الآفة . فقال لهم : أف لكم حين تنهزمون من هؤلاء ، وأنتم في السلاح والعدة والقوة ، وفيكم الشجاعة ، وما عسى يبلغ كيد هؤلاء ولا سلاح معهم ، ولا جنة تقيهم !

وتقدم إلى بعضهم ، وفي يديه بارية مقيرة ، وتحت إبطه مخلاة فيها حجارة ، فجعل الخراساني كلما رمى بسهم استتر منه العيار فوقع في باريته أو قريبا منها ، فيأخذه ويتركه معه ، وصاح : دانق ، أي ثمن النشابة دانق قد أحرزه ، فلم يزالا كذلك حتى فنيت سهام الخراساني ، ثم حمل عليه العيار ، ورمى بحجر من مخلاته في مقلاع ، فما أخطأ عينه ، ثم آخر ، فكاد يصرعه ، فانهزم وهو يقول : ليس هؤلاء بناس . فلما سمع طاهر خبره ضحك منه .

فلما طال ذلك على طاهر ، وقتل من أصحابه في قصر صالح من قتل ، أمر بالهدم والإحراق ، فهدم دور من خالفه من بين دجلة ودار الرقيق ، وباب الشام ، وباب الكوفة ، إلى الصراة وربض حميد ، ونهر كرخايا ، فكان أصحابه إذا هدموا دارا أخذ أصحاب الأمين أبوابها وسقوفها ، فيكونون أشد على أهلها ، فقال شاعر منهم :

لنا كل يوم ثلمة لا نسدها     يزيدون فيما يطلبون وننقص
إذا هدموا دارا أخذنا سقوفها     ونحن لأخرى غيرها نتربص
فإن حرصوا يوما على الشر جهدهم     فغوغاؤنا منهم على الشر أحرص
[ ص: 442 ] فقد ضيقوا من أرضنا كل واسع     وصار لهم أهل بها وتعرص
يثيرون بالطبل القنيص ، فإن بدا     لهم وجه صيد من قريب تقنصوا
لقد أفسدوا شرق البلاد وغربها     علينا فما ندري إلى أين نشخص
إذا حضروا قالوا بما يعرفونه     وإن لم يروا شيئا قبيحا تخرصوا
وما قتل الأبطال مثل مجرب     رسول المنايا ليله يتلصص



في أبيات غيرها .

فلما رأى طاهر أن جميعه لا يحفلون به ، أمر بمنع التجار عنهم ، ومنع من حمل الأقوات وغيرها ، وشدد في ذلك ، وصرف السفن التي يحمل فيها إلى الفرات ، فاشتد ذلك عليهم ، وغلت الأسعار ، وصاروا في أشد حصار ، فأمر الأمين ببيع الأموال وأخذها ، ووكل بها بعض أصحابه ، فكان يهجم على الناس في منازلهم ليلا ونهارا ، فاشتد ذلك على الناس ، وأخذوا بالتهمة والظنة .

ثم كان بينهم وقعة بدرب الحجارة ، قتل فيها من أصحاب طاهر خلق كثير . ووقعة بالشماسية خرج فيها حاتم بن الصقر في العيارين وغيرهم إلى عبيد الله بن الوضاح ، فأوقعوا به ، وهو لا يعلم ، فانهزم عنهم ، وغلبوه على الشماسية ، فأتاه هرثمة يعينه ، فأسره بعض أصحاب الأمين وهو لا يعرفه ، فقاتل عليه بعض أصحابه حتى خلصه ، وانهزم أصحاب هرثمة فلم يرجعوا يومين .

فلما بلغ طاهرا ما صنعوا عقد جسرا فوق الشماسية ، وعبر أصحابه إليهم ، فقاتلوا أشد قتال ، حتى ردوا أصحاب الأمين ، وأعاد أصحاب عبيد الله بن الوضاح إلى مراكزهم ، وأحرق منازل الأمين بالخيزرانية ، وكانت النفقة عليها بلغت عشرين ألف ألف درهم ، وقتل من العيارين كثير ، فضعف أمر الأمين ، فأيقن بالهلاك .

[ ص: 443 ] وهرب منه عبد الله بن خازم بن خزيمة إلى المدائن ، خوفا من الأمين ، لأنه اتهمه ، وتحامل عليه السفلة والغوغاء ، فأقام بها ، وقيل : بل كاتبه طاهر ، وحذره قبض ضياعه وأمواله .

ثم إن الهرش خرج ومعه لفيفة وجماعة إلى جزيرة العباس ، وكانت ناحية لم يقاتل فيها ، فخرج إليه بعض أصحاب طاهر ، فقاتلوه ، فقوي عليهم ، فأمدهم طاهر بجند آخر ، فأوقعوا بالهرش وأصحابه وقعة شديدة ، فغرق منهم بشر كثير .

وضجر الأمين وخاف حتى قال يوما : وددت أن الله قتل الفريقين جميعا فأراح الناس منهم ، فما منهم إلا عدو لي ، أما هؤلاء فيريدون مالي ، وأما أولئك فيريدون نفسي . وضعف أمره ، وانتشر جنده ، وأيقن بظفر طاهر به .

التالي السابق


الخدمات العلمية