الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قل إن كانت لكم الدار الآخرة رد لدعوى أخرى لهم بعد رد دعوى الإيمان، بما أنزل عليهم، ولاختلاف الغرض لم يعطف أحدهما على الآخر مع ظهور المناسبة المصححة للذكر، والآية نزلت فيما حكاه ابن الجوزي عند ما قالت اليهود : إن الله تعالى لم يخلق الجنة إلا لإسرائيل وبنيه، وقال أبو العالية والربيع : سبب نزولها قولهم : لن يدخل الجنة إلخ، و نحن أبناء الله إلخ، و لن تمسنا النار إلخ، وروي مثله عن قتادة، والضمير في (قل)، إما للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أو لمن يبغي إقامة الحجة عليهم، والمراد من الدار الآخرة الجنة، وهو الشائع، واستحسن في البحر تقدير مضاف، أي نعيم الدار الآخرة.

                                                                                                                                                                                                                                      عند الله أي في حكمه، وقيل : المراد بالعندية، المرتبة والشرف، وحملها على عندية المكان كما قيل به احتمالا، بعيد، خالصة من دون الناس أي مخصوصة بكم كما تزعمون، والخالص الذي لا يشوبه شيء، أو ما زال عنه شوبه، ونصب (خالصة) على الحال من الدار الذي هو اسم كان، (ولكم) خبرها قدم للاهتمام، أو لإفادة الحصر، وما بعده للتأكيد، وهذا إن جوز مجيء الحال من اسم كان، وهو الأصح، ومن لم يجوز بناء على أنه ليس بفاعل جعلها حالا من الضمير المستكن في الخبر، وقيل : (خالصة) هو الخبر، (ولكم) ظرف لغو (لكان)، أو (لخالصة)، ولا يخفى بعده ، فإنه تقييد للحكم قبل مجيئه، ولا وجه لتقديم متعلق الخبر على الاسم مع لزوم توسط الظرف بين الاسم والخبر، وأبعد المهدوي وابن عطية أيضا فجعلا (خالصة) حالا، (وعند الله) هو الخبر، مع أن الكلام لا يستقل به وحده، (ودون) هنا للاختصاص، وقطع الشركة يقال : هذا لي دونك، وأنت تريد لا حق لك فيه معي ولا نصيب، وهو متعلق بـ(خالصة)، والمراد (بالناس) الجنس وهو الظاهر، وقيل : المراد بهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمسلمون، وقيل : النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وحده، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قالوا : ويطلق (الناس) ويراد به الرجل الواحد، ولعله لا يكون إلا مجازا بتنزيل الواحد منزلة الجماعة، فتمنوا الموت إن كنتم صادقين في أن الجنة خالصة لكم، فإن من أيقن أنه من أهل الجنة اختار أن ينتقل إلى دار القرار، وأحب أن يخلص من المقام في دار الأكدار، كما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يطوف بين الصفين في غلالة، فقال له الحسن : [ ص: 328 ] ما هذا؟ بزي المحاربين، فقال : يا بني، لا يبالي أبوك سقط على الموت، أم سقط عليه الموت، وكان عبد الله ابن رواحة ينشد وهو يقاتل الروم :


                                                                                                                                                                                                                                      يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها     والروم روم قد دنا عذابها

                                                                                                                                                                                                                                      وقال عمار بصفين :

                                                                                                                                                                                                                                      غدا نلقى الأحبه     محمدا وصحبه

                                                                                                                                                                                                                                      وروي عن حذيفة أنه كان يتمنى الموت، فلما احتضر قال : حبيب جاء على فاقة، وعنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه لما بلغه قتل من قتل ببئر معونة قال : (يا ليتني غودرت معهم، في لحف الجبل)، ويعلم من ذلك أن تمني الموت لأجل الاشتياق إلى دار النعيم، ولقاء الكريم غير منهي عنه، إنما النهي عنه تمنيه لأجل ضر أصابه، فإنه أثر الجزع وعدم الرضا بالقضاء، وفي الخبر: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، وإن كان ولا بد فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وأمتني ما كانت الوفاة خيرا لي)، والمراد بالتمني قول الشخص : ليت كذا، وليت من أعمال القلب، أو الاشتهاء بالقلب، ومحبة الحصول مع القول، فمعنى الآية: سلوا الموت باللسان، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو اشتهوه بقلوبكم، وسلوه بألسنتكم، قاله قوم، وعلى التقديرين، الأمر بالتمني حقيقة، واحتمال أن يكون المراد: تعرضوا للموت، ولا تحترزوا عنه، كالمتمني، فحاربوا من يخالفكم، ولا تكونوا من أهل الجزية والصغار، أو كونوا على وجه يكون المتمنون للموت المشتهون للجنة عليه من العمل الصالح مما لا تساعده الآثار، فقد أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما موقوفا: (لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه)، وأخرج البيهقي عنه مرفوعا: (لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه)، والبخاري مرفوعا عنه أيضا: (لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا)، وقرأ ابن أبي إسحاق (فتمنوا الموت) بكسر الواو، وحكى الحسن بن إبراهيم عن أبي عمرو فتحها، وروي عنه أيضا اختلاس ضمتها،

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية