الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب ذكر شعيب عليه السلام

وهو شعيب بن عيفا بن نويب بن مدين بن إبراهيم . هكذا يقول الأكثرون . وقرأته بخط أبي الحسين بن المنادي على خلاف هذا النسب وهذا الاسم ، قال: هو شعيب بن نوبب -بباءين مع سكون الواو- بن رعيل بن عيفا بن مدين بن إبراهيم .

وبعضهم يقول: ليس من ولد إبراهيم ، إنما هو من ولد بعض من آمن به ، ولكنه ابن بنت لوط .

أرسل إلى أمتين: أهل مدين ، وأصحاب الأيكة . وكانت مدين دار شعيب والأيكة خلف مدين .

وكان اسمه القديم يبرون ، هذا نقلته من خط ابن المنادي . وقال قوم: يثرون بياء وبعدها ثاء .

وقال الشرقي بن القطامي -وكان عالما بالأنساب-: هو يثرون بالعبرانية ، وشعيب بالعربية .

قال العلماء: بعثه الله تعالى إلى مدين ، وهو ابن عشرين سنة ، وكانوا أهل بخس في المكاييل والموازين ، فدعاهم إلى التوحيد ونهاهم عن التطفيف ، فكان يقال له: خطيب الأنبياء؛ لحسن مراجعته لقومه ، فلما طال تماديهم بعث الله عليهم حرا شديدا [ ص: 325 ] فأخذ بأنفاسهم ، فدخلوا أجواف البيوت ، فدخل عليهم فخرجوا إلى البرية ، فبعث الله عليهم سحابة فأظلتهم من الشمس ، فوجدوا بردا ولذة ، فنادى بعضهم بعضا حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم نارا فأحرقتهم ، فذلك عذاب يوم الظلة .

قال أبو الحسين بن المنادي: وكان أبو جاد ، وهواز ، وحطي ، وكلمون ، وسعفص ، وقريشات بني الأمحض بن جندل بن يعصب بن مدين بن إبراهيم ملوكا .

وكان أبو جاد ملك مكة وما والاها من تهامة ، وكان هواز وحطي ملكي وج ، وهو الطائف . وكان سعفص وقريشات ملكي مدين ، ثم خلفهم كلمون . وكان عذاب يوم الظلة في ملكه ، فقالت حالفة بنت كلمون - وفي رواية: أخت كلمون- ترثيه:


كلمون هد ركني هلكه وسط المحله     سيد القوم أتاه الـ
ـحتف نارا وسط ظله     كويت نارا فأضحت
دارهم كالمضمحله

ثم إن شعيبا مكث في أصحاب الأيكة باقي عمره يدعوهم إلى الله سبحانه ويأمرهم بطاعته وتوحيده والإيمان بكتابه ورسله ، فما زادهم دعاؤه إلا طغيانا ، ثم سلط عليهم الحر . فجائز أن تكون الأمتان اتفقتا في التعذيب .

وقد قال قتادة: أما أهل مدين فأخذتهم الصيحة ، وأما أصحاب الأيكة ، فسلط عليهم الحر سبعة أيام ، ثم بعث الله عليهم نارا فأكلتهم ، فذلك عذاب يوم الظلة .

فأما قوله تعالى: وإنا لنراك فينا ضعيفا [11: 91] فقال سعيد بن جبير: كان أعمى . وهذا إن ثبت فقد كان في آخر عمره .

قال أبو روق: لم يبعث الله نبيا أعمى ولا به زمانة .

قال أبو الحسين بن المنادي: وهذا القول أليط بالقلوب من قول سعيد بن جبير .

[ ص: 326 ]

قال أبو المنذر: ثم إن شعيبا زوج موسى ابنته ، ثم خرج إلى مكة فتوفي بها ، وأوصى إلى موسى ، وكان عمره كله مائة وأربعين سنة ، ودفن في المسجد الحرام حيال الحجر الأسود .

ومن الحوادث التي كانت في زمن شعيب

ملك منوشهر

ورأيته بخط أبي الحسين بن المنادي "ميوشهر" قد ضبط بالياء ، وهو من ولد إيرج بن أفريدون ، ولما كبر صار إلى جده أفريدون فتوجه . وبعث موسى عليه السلام وقد مضى من ملك منوشهر ستون سنة ، فعاش في الملك ستين [سنة] أخرى ، ثم وثب به عدو فنفاه عن بلده اثني عشر سنة ، ثم أديل منه منوشهر فنفاه وعاد إلى ملكه ، فملكه بعد ذلك ثمانيا وعشرين سنة .

وكان منوشهر يوصف بالعدل والإحسان ، وهو أول من خندق الخنادق ، وجمع آلة الحرب ، وزاد في مهنة المقاتلة الرمي ، وأول من وضع الدهقنة فجعل لكل قرية دهقانا ، وجعل أهلها له خولا وعبيدا .

وسار إلى بلاد الترك مطالبا بدم جده إيرج ، فقتل طوخ بن أفريدون فانصرف .

واصطلح هو وقريشات على أن يجعلا حد ما بين مملكتيهما منتهى رمية سهم رجل من أصحاب منوشهر ، فحيث ما وقع سهمه من موضع رميته تلك مما يلي الترك فهو الحد بينهما . فرمى ذلك فبلغت رميته نهر بلخ ، فصار حد ما بين الترك وولد طوخ وولد إيرج .

واشتق منوشهر من الصراة ودجلة ونهر بلخ أنهارا عظاما ، وقيل: إنه هو الذي كرى الفرات الأكبر ، وأمر الناس بحراثة الأرض وعمارتها .

قالوا: ولما مضى من ملك منوشهر خمس وثلاثون سنة تناولت الترك من أطراف [ ص: 327 ] رعيته فقام خطيبا فوبخ رعيته ، ويقال: هي أول خطبة سمعت من خطيب- وقال: إنما الناس ناس ما دفعوا العدو عنهم ، وقد نالت الترك من أطرافكم ، وليس ذلك إلا من ترككم جهاد عدوكم ، وقلة المبالاة ، وإن الله أعطانا هذا الملك ليبلونا أنشكر فيزيدنا أم نكفر فيعاقبنا ، فإذا كان غدا فاحضروا .

وأرسل إلى أشراف الأساورة فدعاهم وأدخل الرؤساء ، ودعا موبذ موبذان ، فأقعد على كرسي مما يلي سريره ، ثم قام على سريره ، فقام أشراف أهل مملكته ، فقال:

اجلسوا فإني إنما قمت لأسمعكم كلامي ، فجلسوا ، فقال: أيها الناس ، إنما الخلق للخالق ، والشكر للمنعم ، والتسليم للقادر ، ولا بد مما هو كائن ، وإنه لا أضعف من مخلوق طالبا كان أو مطلوبا ، ولا أقوى من خالق ، ولا أقدر ممن طلبته في يده ، ولا أعجز ممن هو في يد طالبه ، وإن التفكر نور ، والغفلة ظلمة ، والجهالة ضلالة ، وقد ورد الأول ولا بد للآخر من اللحوق بالأول ، وقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها ، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله؟!

وإن الله عز وجل أعطانا هذا الملك فله الحمد ، ونسأله إلهام الرشد والصدق واليقين ، وإن للملك على أهل مملكته [حقا ، ولأهل مملكته عليه حقا ، فحق الملك على أهل المملكة] أن يطيعوه ويناصحوه ويقاتلوا عدوه ، وحقهم على الملك أن يعطيهم أرزاقهم في أوقاتها؛ إذ لا معتمد لهم على غيرها و[أنها تجارتهم ، وحق الرعية على الملك] أن ينظر لهم ، ويرفق بهم ، ولا يحملهم ما لا يطيقون ، وإن أصابتهم مصيبة تنقص من ثمارهم من آفة من السماء أو الأرض أن يسقط عنهم خراج ما نقص ، وإن اجتاحتهم مصيبة أن يعوضهم ما يقويهم على عمارتها ، ثم يأخذ منهم بعد ذلك على قدر ما لا يجحف بهم ، والجند للملك بمنزلة جناحي الطائر ، فمتى قص من الجناح ريشه كان ذلك نقصانا منه ، فكذلك الملك إنما هو بجناحه وريشه .

ألا وإن الملك ينبغي أن يكون فيه ثلاث خصال: أولها أن يكون صدوقا لا يكذب ، وأن يكون سخيا لا يبخل ، وأن يملك نفسه عند الغضب ، فإنه مسلط ويده [ ص: 328 ] مبسوطة ، والخراج يأتيه ، فينبغي ألا يستأثر عن جنده ورعيته بما هم أهله ، وأن يكثر العفو ، فإنه لا ملك أبقى من ملك فيه العفو ، ولا أهلك من ملك فيه العقوبة ، ولأن يخطئ في العفو فيعفو خير من أن يخطئ في العقوبة .

فينبغي للملك أن يتثبت في الأمر الذي فيه قتل النفس [وبوارها] ، وإذا رفع إليه من عامل من عماله ما يستوجب به العقوبة فلا ينبغي له أن يحابيه ، وليجمع بينه وبين المتظلم ، فإن صح عليه للمظلوم حق خرج إليه منه ، وإن عجز عنه آدمي أدى عنه الملك [ورده إلى موضعه] ، وأخذه بإصلاح ما أفسد ، فهذا لكم علينا .

ألا من سفك دما بغير حق أو قطع يدا بغير حق ، فإني لا أعفو عن ذلك إلا أن يعفو عنه صاحبه ، فخذوا هذا عني .

وإن الترك قد طمعت فيكم فاكفوها بما تكفون أنفسكم به ، وقد أمرت لكم بالسلاح والعدة وأنا شريككم في الرأي ، وإنما لي من هذا الملك اسمه مع الطاعة منكم .

ألا وإن الملك ملك إذا أطيع ، فإذا خولف فذلك مملوك ليس بملك . فمهما بلغنا من الخلاف فإنا لا نقبله من المبلغ له حتى نتيقنه منه ، فإذا صحت معرفة ذلك أنزلناه منزل المخالف .

ألا وإن أكمل الأداة عند المصيبات الأخذ بالصبر والراحة إلى اليقين ، فمن قتل في مجاهدة العدو رجوت له الفوز برضوان الله .

وأفضل الأمور التسليم لأمر الله ، والراحة إلى اليقين ، والرضا بقضائه ، أين المهرب مما هو كائن! وإنما يتقلب في كف الطالب ، وإنما أهل هذه الدنيا سفر لا يحلون عقد الرحال إلا في غيرها ، وإنما بلغتهم فيها بالعواري ، فما أحسن الشكر للمنعم والتسليم لمن القضاء له! ومن أحق بالتسليم لمن فوقه ممن لا يجد مهربا إلا إليه ، ولا معولا إلا عليه!

[ ص: 329 ]

فثقوا أن النصر من الله تعالى ، وكونوا على ثقة من درك الطلبة إذا صحت نياتكم ، واعلموا أن هذا الملك لا يقوم إلا بالاستقامة ، وحسن الطاعة ، وقمع العدو ، وسد الثغور ، والعدل للرعية ، وإنصاف المظلوم ، فشفاؤكم عندكم ، والدواء الذي لا داء فيه الاستقامة ، والأمر بالخير والنهي عن الشر ، ولا قوة إلا بالله .

انظروا للرعية فإنها مطعمكم ومشربكم ، ومتى عدلتم فيها رغبوا في العمارة ، فزاد ذلك في خراجكم ، وتبين في زيادة أرزاقكم ، وإذا خفتم على الرعية زهدوا في العمارة ، وعطلوا أكثر الأرض ، فنقص ذلك من خراجكم ، وتبين في نقص أرزاقكم ، فتعاهدوا الرعية بالإنصاف .

هذا قولي وأمري يا موبذ موبذان ، الزم هذا القول وجد في هذا الذي سمعت في يومك ، أسمعتم أيها الناس! فقالوا: نعم ، قد قلت فأحسنت ، ونحن فاعلون إن شاء الله .

ثم أمر بالطعام فوضع فأكلوا وشربوا ، ثم خرجوا وهم له شاكرون .

وكان ملكه مائة وعشرين سنة ، فلما هلك قريشات ، وتغلب على مملكة فارس ، وصار إلى أرض بابل ، وأقام بأذربيجان ، وأكثر الفساد فبقي اثنتي عشرة سنة إلى أن ظهر زو .

وكان من الملوك في هذا الزمان

الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، كان من ملوك اليمن بعد يعرب بن قحطان وإخوته . وكان [ملكه باليمن أيام] ملك [منوشهر ، وإنما سمي] الرائش -واسمه الحارث- لغنيمة غنمها من قوم غزاهم فأدخلها اليمن ، فسمي لذلك الرائش .

وأنه غزا الهند فقتل بها وسبى وغنم الأموال ورجع إلى اليمن ، ثم سار منها على [ ص: 330 ] جبل طيئ ، ثم على الأنبار ، ثم على الموصل ، وأنه وجه منها خيله وعليها رجل من أصحابه ، يقال له: شمر بن العطاف ، فدخل على الترك أرض أذربيجان وهي في أيديهم يومئذ ، فقتل المقاتلة وسبى الذرية ، وزبر ما كان من مسيره في حجرين ، فهما معروفان ببلاد أذربيجان .

وملك بعد الرائش ابنه أبرهة ، ويقال له: ذو منار . وإنما قيل ذلك؛ لأنه غزا بلاد المغرب فأوغل فيها فخاف على جيشه الضلال عند قفوله ، فبنى المنار؛ ليهتدوا به .

وهو أحد الملوك الذين توغلوا في الأرض ، وكان له ولد يقال له: "العبد" فبعثه إلى ناحية من أقاصي بلاد المغرب ، فغنم وأصاب مالا ، وقدم عليه بسبي لهم خلق منكرة . فذعر الناس منهم ، فسموه ذا الأذعار .

ويقال: إن ملوك اليمن كانوا عمالا لملوك الفرس بها ، ومن قبلهم كانت ولايتهم بها .

[ ص: 331 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية