الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم

فيها خمس عشرة مسألة :

الأولى : اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية ; فالذي عليه الجمهور أنها نزلت في العرنيين ; روى الأئمة واللفظ لأبي داود عن أنس بن مالك : أن قوما من عكل - أو قال من عرينة - قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة ; فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا ، فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم ; فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم من أول النهار فأرسل في آثارهم ; فما ارتفع النهار حتى جيء بهم ; فأمر بهم [ ص: 102 ] فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون . قال أبو قلابة : فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله ، وفي رواية : فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم ; وفي رواية : فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافة فأتي بهم قال : فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا الآية ، وفي رواية قال أنس : فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشا حتى ماتوا ، وفي البخاري قال جرير بن عبد الله في حديث : فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم وقد أشرفوا على بلادهم ، فجئنا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال جرير : فكانوا يقولون الماء ، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : النار ، وقد حكى أهل التواريخ والسير : أنهم قطعوا يدي الراعي ورجليه ، وغرزوا الشوك في عينيه حتى مات ، وأدخل المدينة ميتا ، وكان اسمه يسار وكان نوبيا ، وكان هذا الفعل من المرتدين سنة ست من الهجرة ، وفي بعض الروايات عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرقهم بالنار بعدما قتلهم . وروي عن ابن عباس والضحاك : أنها نزلت بسبب قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض ، وفي مصنف أبي داود عن ابن عباس قال : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله إلى قوله : غفور رحيم نزلت هذه الآية في المشركين فمن أخذ منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه ، وممن قال : إن الآية نزلت في المشركين عكرمة والحسن ، وهذا ضعيف يرده قوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ، وقوله عليه الصلاة والسلام : الإسلام يهدم ما قبله أخرجه مسلم ; والصحيح الأول لنصوص الأحاديث الثابتة في ذلك . وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي : الآية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل ويسعى في الأرض بالفساد . قال ابن المنذر : قول مالك صحيح ، وقال أبو ثور محتجا لهذا القول : وفي الآية دليل على أنها نزلت في غير أهل الشرك ; وهو قوله جل ثناؤه : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم وقد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دماءهم تحرم ; فدل ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام ، وحكى الطبري عن بعض أهل العلم : أن هذه الآية نسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين ، فوقف الأمر على هذه الحدود ، وروى محمد بن سيرين قال : كان هذا قبل أن تنزل الحدود ; يعني حديث أنس ; ذكره أبو داود ، وقال قوم منهم الليث بن سعد : ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بوفد عرينة نسخ ; إذ لا [ ص: 103 ] يجوز التمثيل بالمرتد . قال أبو الزناد : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار عاتبه الله عز وجل في ذلك ; فأنزل الله تعالى في ذلك إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا الآية . أخرجه أبو داود . قال أبو الزناد : فلما وعظ ونهي عن المثلة لم يعد . وحكي عن جماعة أن هذه الآية ليست بناسخة لذلك الفعل ; لأن ذلك وقع في مرتين ، لا سيما وقد ثبت في صحيح مسلم وكتاب النسائي وغيرهما قال : إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة ; فكان هذا قصاصا ، وهذه الآية في المحارب المؤمن .

قلت : وهذا قول حسن ، وهو معنى ما ذهب إليه مالك والشافعي ; ولذلك قال الله تعالى : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ومعلوم أن الكفار لا تختلف أحكامهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقط قبل القدرة ، والمرتد يستحق القتل بنفس الردة - دون المحاربة - ولا ينفى ولا تقطع يده ولا رجله ولا يخلى سبيله بل يقتل إن لم يسلم ، ولا يصلب أيضا ; فدل أن ما اشتملت عليه الآية ما عني به المرتد ، وقال تعالى في حق الكفار : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف . وقال في المحاربين : إلا الذين تابوا الآية ; وهذا بين ، وعلى ما قررناه في أول الباب لا إشكال ولا لوم ولا عتاب إذ هو مقتضى الكتاب ; قال الله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم فمثلوا فمثل بهم ، إلا أنه يحتمل أن يكون العتاب إن صح على الزيادة في القتل ، وذلك تكحيلهم بمسامير محماة وتركهم عطاشى حتى ماتوا ، والله أعلم ، وحكى الطبري عن السدي : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمل أعين العرنيين وإنما أراد ذلك ; فنزلت الآية ناهية عن ذلك ، وهذا ضعيف جدا ; فإن الأخبار الثابتة وردت بالسمل ; وفي صحيح البخاري : فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم ، ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام وإن كانت نزلت في المرتدين أو اليهود ، وفي قوله تعالى : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله استعارة ومجاز ; إذ الله سبحانه وتعالى لا يحارب ولا يغالب لما هو عليه من صفات الكمال ، ولما وجب له من التنزيه عن الأضداد والأنداد ، والمعنى : يحاربون أولياء الله ; فعبر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكبارا لإذايتهم ، كما عبر بنفسه عن الفقراء الضعفاء في قوله : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا حثا على الاستعطاف عليهم ; ومثله في صحيح السنة استطعمتك فلم تطعمني . الحديث أخرجه مسلم ، وقد تقدم في " البقرة " .

[ ص: 104 ] الثانية : واختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة ; فقال مالك : المحارب عندنا من حمل على الناس في مصر أو في برية وكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا ذحل ولا عداوة ; قال ابن المنذر : اختلف عن مالك في هذه المسألة ، فأثبت المحاربة في المصر مرة ونفى ذلك مرة ; وقالت طائفة : حكم ذلك في المصر أو في المنازل والطرق وديار أهل البادية والقرى سواء وحدودهم واحدة ; وهذا قول الشافعي وأبي ثور ; قال ابن المنذر : كذلك هو لأن كلا يقع عليه اسم المحاربة ، والكتاب على العموم ، وليس لأحد أن يخرج من جملة الآية قوما بغير حجة ، وقالت طائفة : لا تكون المحاربة في المصر إنما تكون خارجا عن المصر ; هذا قول سفيان الثوري وإسحاق والنعمان ، والمغتال كالمحارب وهو الذي يحتال في قتل إنسان على أخذ ماله ، وإن لم يشهر السلاح لكن دخل عليه بيته أو صحبه في سفر فأطعمه سما فقتله فيقتل حدا لا قودا .

الثالثة : واختلفوا في حكم المحارب ; فقالت طائفة : يقام عليه بقدر فعله ; فمن أخاف السبيل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف ، وإن أخذ المال وقتل قطعت يده ورجله ثم صلب ، فإذا قتل ولم يأخذ المال قتل ، وإن هو لم يأخذ المال ولم يقتل نفي ; قاله ابن عباس ، وروي عن أبي مجلز والنخعي وعطاء الخراساني وغيرهم ، وقال أبو يوسف : إذا أخذ المال وقتل صلب وقتل على الخشبة ; قال الليث : بالحربة مصلوبا . وقال أبو حنيفة : إذا قتل قتل ، وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ، وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه ، إن شاء قطع يده ورجله وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه ; قال أبو يوسف : القتل يأتي على كل شيء ، ونحوه قول الأوزاعي ، وقال الشافعي : إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت ، ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلي ; لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة ، وإذا قتل قتل ، وإذا أخذ المال وقتل قتل وصلب ; وروي عنه أنه قال : يصلب ثلاثة أيام ; قال : وإن حضر وكثر وهيب وكان ردءا للعدو حبس ، وقال أحمد : إن قتل قتل ، وإن أخذ المال قطعت يده ورجله كقول الشافعي ، وقال قوم : لا ينبغي أن يصلب قبل القتل فيحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب ; وحكي عن الشافعي : أكره أن يقتل مصلوبا لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة ، وقال أبو ثور : الإمام مخير على ظاهر الآية ، وكذلك قال مالك ، وهو مروي عن ابن عباس ، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومجاهد والضحاك والنخعي كلهم قال : الإمام مخير في الحكم على المحاربين ، يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل والصلب أو القطع أو النفي بظاهر الآية ; قال ابن عباس : ما كان في القرآن " أو " فصاحبه بالخيار ; وهذا القول أشعر بظاهر الآية ; فإن أهل القول الأول الذين قالوا إن " أو " للترتيب [ ص: 105 ] وإن اختلفوا - فإنك تجد أقوالهم أنهم يجمعون عليه حدين فيقولون : يقتل ويصلب ; ويقول بعضهم : يصلب ويقتل ; ويقول بعضهم : تقطع يده ورجله وينفى ; وليس كذلك الآية ولا معنى " أو " في اللغة ; قال النحاس ، واحتج الأولون بما ذكره الطبري عن أنس بن مالك أنه قال : سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن الحكم في المحارب فقال : " من أخاف السبيل وأخذ المال فاقطع يده للأخذ ورجله للإخافة ومن قتل فاقتله ومن جمع ذلك فاصلبه " . قال ابن عطية : وبقي النفي للمخيف فقط ، والمخيف في حكم القاتل ، ومع ذلك فمالك يرى فيه الأخذ بأيسر العذاب والعقاب استحسانا .

الرابعة : قوله تعالى : أو ينفوا من الأرض اختلف في معناه ; فقال السدي : هو أن يطلب أبدا بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حد الله ، أو يخرج من دار الإسلام هربا ممن يطلبه ; عن ابن عباس وأنس بن مالك ومالك بن أنس والحسن والسدي والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير والربيع بن أنس والزهري . حكاه الرماني في كتابه ; وحكي عن الشافعي أنهم يخرجون من بلد إلى بلد ، ويطلبون لتقام عليهم الحدود ; وقال الليث بن سعد والزهري أيضا ، وقال مالك أيضا : ينفى من البلد الذي أحدث فيه هذا إلى غيره ويحبس فيه كالزاني .

وقال مالك أيضا والكوفيون : نفيهم سجنهم فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها ، فصار كأنه إذا سجن فقد نفي من الأرض إلا من موضع استقراره ; واحتجوا بقول بعض أهل السجون في ذلك :


خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا     إذا جاءنا السجان يوما لحاجة
عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا

حكى مكحول أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من حبس في السجون وقال : أحبسه حتى أعلم منه التوبة ، ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم ; والظاهر أن الأرض في الآية هي أرض النازلة وقد تجنب الناس قديما الأرض التي أصابوا فيها الذنوب ; ومنه الحديث الذي ناء بصدره نحو الأرض المقدسة ، وينبغي للإمام إن كان هذا المحارب مخوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابة أو إفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه ، وإن كان غير مخوف الجانب فظن أنه لا يعود إلى جناية سرح ; قال ابن عطية : وهذا صريح مذهب مالك أن يغرب ويسجن حيث يغرب ، وهذا على الأغلب في أنه مخوف ، ورجحه الطبري وهو [ ص: 106 ] الواضح ; لأن نفيه من أرض النازلة هو نص الآية ، وسجنه بعد بحسب الخوف منه ، فإن تاب وفهمت حاله سرح .

الخامسة : قوله تعالى : أو ينفوا من الأرض النفي أصله الإهلاك ; ومنه الإثبات والنفي ، فالنفي الإهلاك بالإعدام ; ومنه النفاية لردي المتاع ; ومنه النفي لما تطاير من الماء عن الدلو .

قال الراجز :


كأن متنيه من النفي     مواقع الطير على الصفي



السادسة : قال ابن خويز منداد : ولا يراعى المال الذي يأخذه المحارب نصابا كما يراعى في السارق ، وقد قيل : يراعى في ذلك النصاب ربع دينار ; قال ابن العربي ، قال الشافعي وأصحاب الرأي : لا يقطع من قطاع الطريق إلا من أخذ قدر ما تقطع فيه يد السارق ; وقال مالك : يحكم عليه بحكم المحارب وهو الصحيح ; فإن الله تعالى وقت على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام القطع في السرقة في ربع دينار ، ولم يوقت في الحرابة شيئا ، بل ذكر جزاء المحارب ، فاقتضى ذلك توفية الجزاء لهم على المحاربة عن حبة ; ثم إن هذا قياس أصل على أصل وهو مختلف فيه ، وقياس الأعلى بالأدنى والأدنى بالأسفل وذلك عكس القياس . وكيف يصح أن يقاس المحارب على السارق وهو يطلب خطف المال فإن شعر به فر ; حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال فإن منع منه أو صيح عليه وحارب عليه فهو محارب حكم عليه بحكم المحارب . قال القاضي ابن العربي : كنت في أيام حكمي بين الناس إذا جاءني أحد بسارق ، وقد دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار وهو نائم ، وأصحابه يأخذون مال الرجل ، حكمت فيهم بحكم المحاربين ، فافهموا هذا من أصل الدين ، وارتفعوا إلى يفاع العلم عن حضيض الجاهلين .

قلت : اليفع أعلى الجبل ومنه غلام يفعة إذا ارتفع إلى البلوغ ; والحضيض الحفرة في أسفل الوادي ; كذا قال أهل اللغة .

السابعة : ولا خلاف في أن الحرابة يقتل فيها من قتل وإن لم يكن المقتول مكافئا للقاتل ; وللشافعي قولان :

أحدهما : أنها تعتبر المكافأة لأنه قتل فاعتبر فيه المكافأة كالقصاص ; وهذا ضعيف ; لأن [ ص: 107 ] القتل هنا ليس على مجرد القتل وإنما هو على الفساد العام من التخويف وسلب المال ; قال الله تعالى : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا فأمر تعالى بإقامة الحدود على المحارب إذا جمع شيئين محاربة وسعيا في الأرض بالفساد ، ولم يخص شريفا من وضيع ، ولا رفيعا من دنيء .

الثامنة : وإذا خرج المحاربون فاقتتلوا مع القافلة فقتل بعض المحاربين ولم يقتل بعض قتل الجميع . وقال الشافعي : لا يقتل إلا من قتل ; وهذا أيضا ضعيف ; فإن من حضر الوقيعة شركاء في الغنيمة وإن لم يقتل جميعهم ; وقد اتفق معنا على قتل الردء وهو الطليعة ، فالمحارب أولى .

التاسعة : وإذا أخاف المحاربون السبيل وقطعوا الطريق وجب على الإمام قتالهم من غير أن يدعوهم ، ووجب على المسلمين التعاون على قتالهم وكفهم عن أذى المسلمين ، فإن انهزموا لم يتبع منهم مدبرا إلا أن يكون قد قتل وأخذ مالا ، فإن كان كذلك أتبع ليؤخذ ويقام عليه ما وجب لجنايته ; ولا يذفف منهم على جريح إلا أن يكون قد قتل ; فإن أخذوا ووجد في أيديهم مال لأحد بعينه رد إليه أو إلى ورثته ، وإن لم يوجد له صاحب جعل في بيت المال ; وما أتلفوه من مال لأحد غرموه ; ولا دية لمن قتلوا إذا قدر عليهم قبل التوبة ، فإن تابوا وجاءوا تائبين وهي :

العاشرة : لم يكن للإمام عليهم سبيل ، وسقط عنهم ما كان حدا لله وأخذوا بحقوق الآدميين ، فاقتص منهم من النفس والجراح ، وكان عليهم ما أتلفوه من مال ودم لأوليائه في ذلك ، ويجوز لهم العفو والهبة كسائر الجناة من غير المحاربين ; هذا مذهب مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي . وإنما أخذ ما بأيديهم من الأموال وضمنوا قيمة ما استهلكوا ; لأن ذلك غصب فلا يجوز ملكه لهم ، ويصرف إلى أربابه أو يوقفه الإمام عنده حتى يعلم صاحبه ، وقال قوم من الصحابة والتابعين : لا يطلب من المال إلا بما وجد عنده ، وأما ما استهلكه فلا يطالب به ; وذكر الطبري ذلك عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه ، وهو الظاهر من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بحارثة بن بدر الغداني فإنه كان محاربا ثم تاب قبل القدرة عليه ، فكتب له بسقوط الأموال والدم عنه كتابا منشورا ; قال ابن خويز منداد : واختلفت الرواية عن مالك في المحارب إذا أقيم عليه الحد ولم يوجد له مال ; هل يتبع دينا بما أخذ ، أو يسقط عنه كما يسقط عن السارق ؟ والمسلم والذمي في ذلك سواء .

[ ص: 108 ] الحادية عشرة : وأجمع أهل العلم على أن السلطان ولي من حارب ; فإن قتل محارب أخا امرئ أو أباه في حال المحاربة ، فليس إلى طالب الدم من أمر المحارب شيء ، ولا يجوز عفو ولي الدم ، والقائم بذلك الإمام ; جعلوا ذلك بمنزلة حد من حدود الله تعالى .

قلت : فهذه جملة من أحكام المحاربين جمعنا غررها ، واجتلبنا دررها ; ومن أغرب ما قيل في تفسيرها وهي :

الثانية عشرة : تفسير مجاهد لها ; المراد بالمحاربة في هذه الآية الزنى والسرقة ; وليس بصحيح ; فإن الله سبحانه بين في كتابه وعلى لسان نبيه أن السارق تقطع يده ، وأن الزاني يجلد ويغرب إن كان بكرا ، ويرجم إن كان ثيبا محصنا ، وأحكام المحارب في هذه الآية مخالف لذلك ، اللهم إلا أن يريد إخافة الطريق بإظهار السلاح قصدا للغلبة على الفروج ، فهذا أفحش المحاربة ، وأقبح من أخذ الأموال وقد دخل في معنى قوله تعالى : ويسعون في الأرض فسادا .

الثالثة عشرة : قال علماؤنا : ويناشد اللص بالله تعالى ، فإن كف ترك وإن أبى قوتل ، فإن أنت قتلته فشر قتيل ودمه هدر . روى النسائي عن أبي هريرة أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن عدي على مالي ؟ قال : فانشد بالله قال : فإن أبوا علي . قال : فانشد بالله قال : فإن أبوا علي قال : فانشد بالله قال : فإن أبوا علي قال : فقاتل فإن قتلت ففي الجنة وإن قتلت ففي النار وأخرجه البخاري ومسلم - وليس فيه ذكر المناشدة - عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال : فلا تعطه مالك قال : أرأيت إن قاتلني ؟ قال : فقاتله قال : أرأيت إن قتلني ؟ قال : فأنت شهيد قال : فإن قتلته ؟ قال : هو في النار . قال ابن المنذر : وروينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأوا قتال اللصوص ودفعهم عن أنفسهم وأموالهم ; هذا مذهب ابن عمر والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق والنعمان ، وبهذا يقول عوام أهل العلم : إن للرجل أن يقاتل عن نفسه وأهله وماله إذا أريد ظلما ; للأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص وقتا دون وقت ، ولا حالا دون حال إلا السلطان ; فإن جماعة أهل الحديث كالمجتمعين على أن من لم يمكنه أن يمنع عن نفسه وماله إلا بالخروج على السلطان ومحاربته أنه لا يحاربه ولا يخرج عليه ; للأخبار الدالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، التي [ ص: 109 ] فيها الأمر بالصبر على ما يكون منهم ، من الجور والظلم ، وترك قتالهم والخروج عليهم ما أقاموا الصلاة .

قلت : وقد اختلف مذهبنا إذا طلب الشيء الخفيف كالثوب والطعام هل يعطونه أو يقاتلون ؟ وهذا الخلاف مبني على أصل ، وهو هل الأمر بقتالهم لأنه تغيير منكر أو هو من باب دفع الضرر ؟ وعلى هذا أيضا ينبني الخلاف في دعوتهم قبل القتال ، والله أعلم .

الرابعة عشرة : قوله تعالى : ذلك لهم خزي في الدنيا لشناعة المحاربة وعظم ضررها ، وإنما كانت المحاربة عظيمة الضرر ; لأن فيها سد سبيل الكسب على الناس ، لأن أكثر المكاسب وأعظمها التجارات ، وركنها وعمادها الضرب في الأرض ; كما قال عز وجل : وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله فإذا أخيف الطريق انقطع الناس عن السفر ، واحتاجوا إلى لزوم البيوت ، فانسد باب التجارة عليهم ، وانقطعت أكسابهم ; فشرع الله على قطاع الطريق الحدود المغلظة ، وذلك الخزي في الدنيا ردعا لهم عن سوء فعلهم ، وفتحا لباب التجارة التي أباحها لعباده لمن أرادها منهم ، ووعد فيها بالعذاب العظيم في الآخرة . وتكون هذه المعصية خارجة عن المعاصي ، ومستثناة من حديث عبادة في قول النبي صلى الله عليه وسلم : فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة والله أعلم ، ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب ، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا ، ويجري هذا الذنب مجرى غيره . ولا خلود لمؤمن في النار على ما تقدم ، ولكن يعظم عقابه لعظم الذنب ، ثم يخرج إما بالشفاعة وإما بالقبضة ، ثم إن هذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة كقوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء أما إن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعيد وكبر المعصية .

الخامسة عشرة : قوله تعالى : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم استثنى جل وعز التائبين قبل أن يقدر عليهم ، وأخبر بسقوط حقه عنهم بقوله : فاعلموا أن الله غفور رحيم . أما القصاص وحقوق الآدميين فلا تسقط ، ومن تاب بعد القدرة فظاهر الآية أن التوبة لا تنفع ، وتقام الحدود عليه كما تقدم ، وللشافعي قول إنه يسقط كل حد بالتوبة ، والصحيح من مذهبه أن ما تعلق به حق الآدمي قصاصا كان أو غيره فإنه لا يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه ، وقيل : أراد بالاستثناء المشرك إذا تاب وآمن قبل القدرة عليه فإنه تسقط عنه الحدود ; وهذا ضعيف ; لأنه إن آمن بعد القدرة عليه لم يقتل أيضا بالإجماع ، وقيل : إنما لا يسقط الحد عن المحاربين بعد القدرة عليهم - والله أعلم - لأنهم متهمون بالكذب في توبتهم والتصنع فيها إذا [ ص: 110 ] نالتهم يد الإمام ، أو لأنه لما قدر عليهم صاروا بمعرض أن ينكل بهم فلم تقبل توبتهم ; كالمتلبس بالعذاب من الأمم قبلنا ، أو من صار إلى حال الغرغرة فتاب ; فأما إذا تقدمت توبتهم القدرة عليهم ، فلا تهمة وهي نافعة على ما يأتي بيانه في سورة " يونس " ; فأما الشراب والزناة والسراق إذا تابوا وأصلحوا وعرف ذلك منهم ، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم ، وإن رفعوا إليه فقالوا تبنا لم يتركوا ، وهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية