الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( فإن كان له إخوة فلأمه السدس )

قال أبو جعفر : إن قال قائل : وما المعنى الذي من أجله ذكر حكم الأبوين مع الإخوة ، وترك ذكر حكمهما مع الأخ الواحد ؟

قلت : اختلاف حكمهما مع الإخوة الجماعة والأخ الواحد ، فكان في إبانة [ ص: 39 ] الله - جل ثناؤه - لعباده حكمهما فيما يرثان من ولدهما الميت مع إخوته ، غنى وكفاية عن أن حكمهما فيما ورثا منه غير متغير عما كان لهما ، ولا أخ للميت ولا وارث غيرهما . إذ كان معلوما عندهم أن كل مستحق حقا بقضاء الله ذلك له ، لا ينتقل حقه الذي قضى به له ربه - جل ثناؤه - عما قضى به له إلى غيره ، إلا بنقل الله ذلك عنه إلى من نقله إليه من خلقه . فكان في فرضه تعالى ذكره للأم ما فرض إذا لم يكن لولدها الميت وارث غيرها وغير والده ولا أخ - الدلالة الواضحة للخلق أن ذلك المفروض وهو ثلث مال ولدها الميت حق لها واجب حتى يغير ذلك الفرض من فرض لها . فلما غير تعالى ذكره ما فرض لها من ذلك مع الإخوة الجماعة ، وترك تغييره مع الأخ الواحد ، علم بذلك أن فرضها غير متغير عما فرض لها إلا في الحال التي غيره فيها من لزم العباد طاعته ، دون غيرها من الأحوال .

ثم اختلف أهل التأويل في عدد الإخوة الذين عناهم الله تعالى ذكره بقوله : " فإن كان له إخوة " .

فقال جماعة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان ، ومن بعدهم من علماء أهل الإسلام في كل زمان : عنى الله - جل ثناؤه - بقوله : فإن كان له إخوة فلأمه السدس اثنين كان الإخوة أو أكثر منهما ، أنثيين كانتا أو كن إناثا ، أو ذكرين كانا أو كانوا ذكورا ، أو كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى . واعتل كثير ممن قال ذلك ، بأن ذلك قالته الأمة عن بيان الله جل [ ص: 40 ] ثناؤه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - فنقلته أمة نبيه نقلا مستفيضا قطع العذر مجيئه ، ودفع الشك فيه عن قلوب الخلق وروده .

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول : بل عنى الله - جل ثناؤه - بقوله : فإن كان له إخوة ، جماعة أقلها ثلاثة . وكان ينكر أن يكون الله - جل ثناؤه - حجب الأم عن ثلثها مع الأب بأقل من ثلاثة إخوة . فكان يقول في أبوين وأخوين : للأم الثلث ، وما بقي فللأب ، كما قال أهل العلم في أبوين وأخ واحد .

ذكر الرواية عنه بذلك :

8732 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : حدثنا ابن أبي فديك قال : حدثني ابن أبي ذئب ، عن شعبة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس : أنه دخل على عثمان رضي الله عنه فقال : لم صار الأخوان يردان الأم إلى السدس ، وإنما قال الله : فإن كان له إخوة ، والأخوان في لسان قومك وكلام قومك ليسا بإخوة ؟ فقال عثمان رحمه الله هل أستطيع نقض أمر كان قبلي ، وتوارثه الناس ومضى في الأمصار ؟ [ ص: 41 ] قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن المعني بقوله : فإن كان له إخوة - اثنان من إخوة الميت فصاعدا ، على ما قاله أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، لنقل الأمة وراثة صحة ما قالوه من ذلك عن الحجة ، وإنكارهم ما قاله ابن عباس في ذلك .

فإن قال قائل : وكيف قيل في الأخوين " إخوة " وقد علمت أن ل " الأخوين " في منطق العرب مثالا لا يشبه مثال " الإخوة " في منطقها ؟

قيل : إن ذلك وإن كان كذلك ، فإن من شأنها التأليف بين الكلامين يتقارب معنياهما ، وإن اختلفا في بعض وجوههما . فلما كان ذلك كذلك ، وكان مستفيضا في منطقها منتشرا مستعملا في كلامها : " ضربت من عبد الله وعمرو رءوسهما ، وأوجعت منهما ظهورهما " وكان ذلك أشد استفاضة في منطقها من أن يقال : " أوجعت منهما ظهريهما " وإن كان مقولا " أوجعت ظهريهما " كما قال الفرزدق :


بما في فؤادينا من الشوق والهوى فيبرأ منهاض الفؤاد المشعف

[ ص: 42 ] غير أن ذلك وإن كان مقولا فأفصح منه : " بما في أفئدتنا " كما قال - جل ثناؤه - : ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ) [ سورة التحريم : 4 ] .

فلما كان ما وصفت من إخراج كل ما كان في الإنسان واحدا إذا ضم إلى الواحد منه آخر من إنسان آخر فصارا اثنين من اثنين ، بلفظ الجميع - أفصح في منطقها وأشهر في كلامها وكان " الأخوان " شخصين ، كل واحد منهما غير صاحبه ، من نفسين مختلفين ، أشبه معنياهما معنى ما كان في الإنسان من [ ص: 43 ] أعضائه واحدا لا ثاني له ، فأخرج اثناهما بلفظ اثني العضوين اللذين وصفت ، فقيل " إخوة " في معنى " الأخوين " كما قيل " ظهور " في معنى " الظهرين " و " أفواه " في معنى " فموين " و " قلوب " في معنى " قلبين " .

وقد قال بعض النحويين : إنما قيل " إخوة " لأن أقل الجمع اثنان . وذلك أن ذلك ضم شيء إلى شيء صارا جميعا بعد أن كانا فردين ، فجمعا ليعلم أن الاثنين جمع .

قال أبو جعفر : وهذا وإن كان كذلك في المعنى ، فليس بعلة تنبئ عن جواز إخراج ما قد جرى الكلام مستعملا مستفيضا على ألسن العرب لاثنيه بمثال وصورة غير مثال ثلاثة فصاعدا منه وصورتها . لأن من قال : " أخواك قاما " فلا شك أنه قد علم أن كل واحد من " الأخوين " فرد ضم أحدهما إلى الآخر فصارا جميعا بعد أن كانا شتى . غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فلا تستجيز العرب في كلامها أن يقال : " أخواك قاموا " فيخرج قولهم " قاموا " وهو لفظ للخبر عن الجميع ، خبرا عن " الأخوين " وهما بلفظ الاثنين . لأن كل ما جرى به الكلام على ألسنتهم معروفا عندهم بمثال وصورة ، إذا غيره مغير عما قد عرفوه فيهم ، [ ص: 44 ] نكروه . فكذلك " الأخوان " وإن كان مجموعين ضم أحدهما إلى صاحبه ، فلهما مثال في المنطق وصورة غير مثال الثلاثة منهم فصاعدا وصورتهم . فغير جائز أن يغير أحدهما إلى الآخر إلا بمعنى مفهوم . وإذا كان ذلك كذلك ، فلا قول أولى بالصحة مما قلنا قبل .

قال أبو جعفر : فإن قال قائل : ولم نقصت الأم عن ثلثها بمصير إخوة الميت معها اثنين فصاعدا ؟

قيل : اختلفت العلماء في ذلك .

فقال بعضهم : نقصت الأم عن ذلك دون الأب ، لأن على الأب مؤنهم دون أمهم .

ذكر من قال ذلك :

8733 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس ، أضروا بالأم ولا يرثون ، ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث ، ويحجبها ما فوق ذلك . وكان أهل العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمهم من [ ص: 45 ] الثلث لأن أباهم يلي نكاحهم والنفقة عليهم دون أمهم .

وقال آخرون : بل نقصت الأم السدس ، وقصر بها على سدس واحد ، معونة لإخوة الميت بالسدس الذي حجبوا أمهم عنه .

ذكر من قال ذلك :

8734 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : السدس الذي حجبته الإخوة الأم - لهم ، إنما حجبوا أمهم عنه ليكون لهم دون أمهم .

وقد روي عن ابن عباس خلاف هذا القول ، وذلك ما :

8735 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن الحسن بن محمد ، عن ابن عباس قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد .

قال أبو جعفر : وأولى ذلك بالصواب أن يقال في ذلك : إن الله تعالى ذكره فرض للأم مع الإخوة السدس ، لما هو أعلم به من مصلحة خلقه وقد يجوز أن يكون ذلك كان لما ألزم الآباء لأولادهم وقد يجوز أن يكون ذلك لغير ذلك . وليس ذلك مما كلفنا علمه ، وإنما أمرنا بالعمل بما علمنا .

وأما الذي روي عن طاوس عن ابن عباس ، فقول لما عليه الأمة مخالف . وذلك أنه لا خلاف بين الجميع : أن لا ميراث لأخي ميت مع والده . فكفى إجماعهم على خلافه شاهدا على فساده .

التالي السابق


الخدمات العلمية