الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          107 - فصل

                          في شركتهم ومضاربتهم .

                          قد تقدم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاركهم في زرع خيبر وثمرها .

                          قال إسحاق بن إبراهيم : سمعت أبا عبد الله ، وسئل عن الرجل يشارك اليهودي والنصراني ، قال : يشاركهم ، ولكن يلي هو البيع والشراء ، وذلك أنهم يأكلون الربا ويستحلون الأموال ثم قال أبو عبد الله : ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل .

                          [ ص: 553 ] وقال إبراهيم بن هانئ : سمعت أبا عبد الله قال في شركة اليهودي والنصراني : أكرهه ، لا يعجبني إلا أن يكون المسلم الذي يلي البيع والشراء .

                          وقال الأثرم : سألت أبا عبد الله عن مشاركة اليهودي والنصراني ؟ قال : شاركهم ولكن لا يخلو اليهودي والنصراني بالمال دونه ، يكون هو يليه ; لأنه يعمل بالربا .

                          وقال إسحاق بن منصور : قيل لأبي عبد الله : قيل لسفيان : ما ترى في مشاركة النصراني ؟ قال : أما ما يغيب عنك فما يعجبني .

                          قال أحمد : حسن .

                          وقال عبد الله بن أحمد : حدثني عبد الأعلى ، ثنا حماد بن سلمة قال : قال إياس بن معاوية : إذا شارك المسلم اليهودي أو النصراني ، وكانت الدراهم مع المسلم فهو الذي يتصرف بها في الشراء والبيع ، فلا بأس ، ولا يدفعها إلى اليهودي والنصراني يعملان فيها ; لأنهما يربيان .

                          [ ص: 554 ] قال عبد الله : سألت أبي عن ذلك فقال مثل قول إياس .

                          وقال العباس بن محمد الخلال : قال أبو عبد الله في المسلم يدفع إلى الذمي مالا يشاركه ، قال : أما إذا كان هو يلي ذلك فلا ، إلا أن يكون المسلم يليه .

                          وقال حنبل : قال أبو عبد الله : ما أحب مخالطته بسبب من الأسباب في الشراء والبيع ، هذا لفظه .

                          قال الخلال في " الجامع " : يعني المجوسي ; لأن عصمة بين ذلك .

                          أخبرنا عصمة بن عصام ، حدثنا حنبل أن أبا عبد الله قال : أما المجوسي [ ص: 555 ] فما أحب مخالطته ولا معاملته .

                          قال الخلال : وأخبرني عبد الله بن حنبل قال : حدثني أبي - في موضع آخر ، قال : سألت عمي - قلت له : ترى للرجل أن يشارك اليهودي والنصراني ؟ قال : لا بأس ، إلا أنه لا تكون المعاملة في البيع والشراء إليه ، يشرف على ذلك ، ولا يدعه حتى يعلم معاملته وبيعه ، فأما المجوسي فلا أحب مخالطته ولا معاملته ; لأنه يستحل ما لا يستحل هذا .

                          قال حنبل : وحدثنا أبو سلمة ، حدثنا جرير بن حازم قال : سئل حماد عن مشاركة المجوسي قال : لا بأس بذلك ، قيل له : فيدفع إليه مالا مضاربة ؟ قال : لا .

                          [ ص: 556 ] قال [ عبد الله بن ] حنبل قال عمي : لا يشاركه ولا يضاربه .

                          وقال حرب : سألت أحمد بن حنبل قلت : ما قولك في شركة اليهودي والنصراني ؟ فكرهه وقال : لا يعجبني إلا أن يكون المسلم هو الذي يلي الشراء والبيع .

                          قال حرب : وحدثنا أبو أمية محمد بن إبراهيم حدثنا أبو صالح ، حدثنا بكير بن عمرو قال : قال عطاء : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مشاركة اليهودي والنصراني ، إلا أن يكون الشراء والبيع بيد المسلم .

                          وهذا الحديث - على إرساله - ضعيف السند .

                          [ ص: 557 ] وقال وكيع عن ليث عن مجاهد وعطاء وطاوس أنهم كرهوا شركة النصراني .

                          وقال وكيع عن الفضل بن دلهم عن الحسن : لا يشارك يهوديا ولا نصرانيا في شراء ولا بيع .

                          وقال : سمعت أبا عبد الله قال : لا أحب الرجل أن يشارك المجوسي ولا يعطيه ماله مضاربة ، ولا اليهودي ولا النصراني ، ويأخذ منهما .

                          [ ص: 558 ] وقال حرب : قلت لأحمد : رجل يدفع ماله مضاربة إلى الذمي تكرهه ؟ قال : لا .

                          وقال وكيع عن سفيان عن معمر عن رجل عن الحسن : خذ من اليهودي والنصراني ولا تعطهما .

                          قال الخلال : استقرت الروايات عن أبي عبد الله بكراهة شركة اليهودي والنصراني إلا أن يكون هو يلي .

                          وتفرد حنبل : " من المجوس خاصة " فذكر عن أبي عبد الله الكراهة له ألبتة ، قال : وهم أهل ذلك ; لأنهم - كما قال أبو عبد الله - يستحلون ما لا يستحل هؤلاء .

                          قال : وعلى هذا ، العمل من قوله ، وبالله التوفيق .

                          قلت : الذين كرهوا مشاركتهم لهم مأخذان .

                          أحدهما : استحلالهم ما لا يستحله المسلم من الربا والعقود الفاسدة [ ص: 559 ] وغيرها وعلى هذا تزول الكراهة بتولي المسلم البيع والشراء .

                          والثاني : أن مشاركتهم سبب لمخالطتهم ، وذلك يجر إلى موادتهم وكره الشافعي مشاركتهم مطلقا .

                          وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : أكره أن يشارك المسلم اليهودي .

                          وابن عباس إنما كره مشاركتهم لمعاملتهم بالربا ، كذلك رواه الأثرم وغيره عنه من طريق أبي جمرة عنه : " لا يشاركن يهوديا ولا نصرانيا ولا مجوسيا ; لأنهم يربون والربا لا يحل " .

                          [ ص: 560 ] وقد عللت طائفة كراهة مشاركتهم بأن كسبهم غير طيب ، فإنهم يبيعون الخمر والخنزير .

                          وهذه العلة لا توجب الكراهة ، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : " ولوهم بيعها ، وخذوا أثمانها " .

                          وما باعوه من الخمر والخنزير قبل مشاركة المسلم جاز لهم شركتهم في ثمنه ، وثمنه حلال ; لاعتقادهم حله ، وما باعوه واشتروه بمال الشركة فالعقد فيه فاسد ، فإن الشريك وكيل والعقد يقع للموكل ، والمسلم لا يثبت ملكه على الخمر والخنزير .

                          فرع .

                          قال مهنا : سألت أحمد عن مسلم ونصراني لهما على رجل نصراني مائة درهم ، فصالحه النصراني من حصته على خنزير أو على دن خمر بالذي [ ص: 561 ] له عليه ؟ قال : يكون للمسلم على النصراني خمسون درهما .

                          فتأمل هذا الفقه ، كيف جعل ما قبضه النصراني من الخمر أو الخنزير من حصته وحده ، حيث لم يجز للمسلم مشاركته فيه ، وجعل الخمسين الباقية كلها للمسلم ; لأن المعاوضة صحت بالنسبة إلى النصراني ولم تصح بالنسبة إلى المسلم وهي معاوضة من أحد الشريكين فصححها في حقه دون شريكه .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية