الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          [ ص: 404 ] باب عقد الذمة لا يجوز عقدها إلا لأهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى ، ومن يوافقهم في التدين بالتوراة والإنجيل ، كالسامرة والفرنج ومن له شبهة كتاب كالمجوس . وعنه : يجوز عقدها لجميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب . فأما الصابئ ، فينظر فيه ؛ فإن انتسب إلى أحد الكتابين ، فهو من أهله وإلا فلا . ومن تهود أو تنصر بعد بعث نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم ، أو ولد بين أبوين لا تقبل الجزية من أحدهما ، فعلى وجهين . ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب وتؤخذ الزكاة من أموالهم مثلي ما تؤخذ من المسلمين ، ويؤخذ ذلك من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم ، ومصرفه مصرف الجزية . وقال الخرقي : مصرف الزكاة ولا يؤخذ ذلك من كتابي غيرهم . وقال القاضي : تؤخذ من نصارى العرب ويهودهم .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          باب عقد الذمة .

                                                                                                                          قال : أبو عبيد : الذمة : الأمان ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - يسعى بذمتهم أدناهم والذمة : الضمان والعهد ، من : أذمه يذمه : إذا جعل له عهدا .

                                                                                                                          ومعنى عقد الذمة : إقرار بعض الكفار على كفره بشرط بذل الجزية ، والتزام أحكام الملة .

                                                                                                                          ( لا يجوز عقدها إلا ) من الإمام أو نائبه في الأشهر ، وحينئذ يجب عقدها إذا اجتمعت شروطها ما لم يخف غائلة منهم .

                                                                                                                          وصفة عقدها : أقررتكم بجزية ، أو يبذلونها ؛ فيقول : أقررتكم على ذلك .

                                                                                                                          والجزية : مال يؤخذ منهم على وجه الصغار كل عام بدلا عن قتلهم وإقامتهم بدارنا ( لأهل الكتاب وهم اليهود ) واحدهم يهودي حذفوا ياء النسبة في الجمع كزنج ، وزنجي . وفي تسميتهم بذلك لأنهم هادوا عن عبادة العجل أي : تابوا ، أو لأنهم مالوا عن دين الإسلام ، أو أنهم يهودون عند قراءة التوراة أي : يتحركون أو لنسبهم إلى يهوذا بن يعقوب بالمعجمة ، ثم عربت بالمهملة . ( والنصارى ) واحدهم نصراني ، والأنثى نصرانية نسبة إلى قرية بالشام يقال لها : نصران ، وناصرة ( ومن يوافقهم في التدين بالتوراة والإنجيل كالسامرة ) وهي قبيلة من بني إسرائيل نسب إليهم السامري ، ويقال لهم في زمننا : سمرة بوزن سحرة ، وهم طائفة من اليهود يتشددون في دينهم ، ويخالفونهم في بعض " الفروع " . ( والفرنج ) وهم الروم ، ويقال لهم : بنو الأصفر ، والأشبه أنها مولدة نسبة إلى فرنجة بفتح أوله وثانيه وسكون ثالثه ، وهي جزيرة من جزائر البحر ، والنسبة إليها فرنجي ، ثم [ ص: 405 ] حذفت ، والأصل فيه قوله تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله إلى قوله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [ التوبة : 29 ] وقول المغيرة بن شعبة لعامل كسرى : أمرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية . رواه أحمد ، والبخاري . والإجماع على قبول الجزية ممن بذلها من أهل الكتاب ، ومن يلحق بهم . وإقرارهم بذلك في دار الإسلام . ( ومن له شبهة كتاب كالمجوس ) لأن عمر لم يأخذها منهم حتى شهد عنده عبد الرحمن بن عوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر . رواه البخاري . وفي رواية أنه - عليه السلام - قال : سنوا بهم سنة أهل الكتاب . رواه الشافعي ، وإنما قيل : لهم شبهة كتاب ؛ لأنه روي أنه كان لهم كتاب ، فرفع ، فصار لهم بذلك شبهة أوجبت حقن دمائهم ، وأخذ الجزية منهم . ولم ينتهض في إباحة نسائهم ، وحل ذبائحهم .

                                                                                                                          ( وعنه : يجوز عقدها لجميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب ) لما روى الزهري أن النبي صالح عبدة الأوثان على الجزية إلا من كان من العرب . وفي " الفنون " لم أجد أصحابنا ذكروا أن الوثني يقر بجزية ، ثم ذكر أنه وجد رواية بخط أبي سعد البرداني أن عبدة الأوثان يقرون بجزية ؛ فيعطي هذا أنهم يقرون بجزية على عمل أصنام يعبدونها في بيوتهم ، ولم يسمع بذلك في سيرة من سير السلف وبعدها . واختار الشيخ تقي الدين أخذها من الكل ، ومقتضى ما ذكره أن عبدة الأوثان من العرب لا تقبل منهم ، لكونهم من رهط النبي - صلى الله عليه وسلم - وشرفوا به ، فلا يقرون على غير دينه وغيرهم يقر بالجزية ؛ لأنه يرق بالاسترقاق كالمجوس . ( فأما الصابئ فينظر فيه ، فإن انتسب إلى أحد الكتابين فهو من أهله ) [ ص: 406 ] وقاله جمع ؛ لأنه قد صار مشاركا لأهله في ذلك الكتاب ، وإن سموا باسم آخر ؛ لأن الموافقة في الدين توجب الموافقة في الحكم . والمذهب أنهم جنس من النصارى ، وروي عن أحمد أنه قال : إنهم يسبتون ، وهو قول عمر ، وقال مجاهد : هم بين اليهود والنصارى . ( وإلا فلا ) أي : إن لم ينسب إلى ذلك فليس من أهل الكتاب ؛ لأنه روي أنهم يقولون : إن الفلك حي ناطق ، وإن الكواكب السبعة آلهة ؛ وحينئذ فهم كعبدة الأوثان .

                                                                                                                          ( ومن تهود أو تنصر ) أو تمجس ( بعد بعث نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم ) فالمذهب أنه يقر عليه ، ويكون كالأصلي في قبول الجزية ؛ لأنه - عليه السلام - كان يقبلها منهم من غير سؤال . ولو اختلف الحكم لسأل عنه ، ولو وقع لنقل ، وعنه : لا نقبل منه إلا الإسلام أو القتل ؛ لأنه بتركه الدين الأول هو مقر ببطلانه ، فلا يقر على دين باطل غيره . وعنه : يقر على غير المجوسية ؛ لأن التمجس لم يرد به نص فيبقى على الأصل ، وعلم منه أن الانتقال إليها قبل البعثة يكون من أهلها ؛ لأن الإسلام أتى وهو على أصل الدين . وفي " المذهب " و " الترغيب " و " المستوعب " وذكره أبو الخطاب : قبل البعثة بعد التبديل كبعد البعثة . وقدم في " التبصرة " ولو قبل التبديل ( أو ولد بين أبوين لا تقبل الجزية من أحدهما ) كولد الوثني من كتابية ( فعلى وجهين ) ؛ أصحهما : أنها تقبل منه الجزية إذا اختار دين الآخر ، لعموم النص فيهم ، ولأنه اختار أفضل الدينين ، وأقلهما كفرا . والثاني : لا يقبل منه سوى الإسلام ؛ لأنه تعارض فيه القبول وعدمه فرجع إلى الأصل . ومحل ذلك إذا اختار من تقبل منه الجزية ( ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب ) بن وائل [ ص: 407 ] من العرب من ولد ربيعة بن نزار فإنهم انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية فدعاهم عمر إلى بذل الجزية ؛ فأبوا وقالوا : نحن عرب خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة ، فقال عمر : لا آخذ من مشرك صدقة فلحق بعضهم بالروم فقال النعمان بن زرعة : يا أمير المؤمنين إن القوم لهم بأس وشدة وهم عرب يأنفون من الجزية ، فلا تعن عليك عدوك بهم ، وخذ منهم الجزية باسم الصدقة ، فبعث عمر في طلبهم فردهم . ( وتؤخذ الزكاة من أموالهم مثلي ما تؤخذ من المسلمين ) لأن تمام حديث عمر أنه ضعف عليهم من الإبل في كل خمس شاتان ، وفي كل ثلاثين بقرة تبيعان ، وفي كل عشرين دينارا دينار ، وفي مائتي درهم عشرة دراهم ، وفيما سقت السماء الخمس ، وفيما سقي بنضح أو دولاب العشر . واستقر ذلك من قوله ، ولم ينكر فكان كالإجماع ، وفي عبارته تسامح . والأولى أن يقال : وتؤخذ عوض الجزية منهم مثلا زكاة المسلمين . ( ويؤخذ ذلك من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم ) وكذا مكافيفهم ، وشيوخهم ؛ لأن اعتبارها بالأنفس سقط ، وانتقل إلى الأموال بتقريرهم فيؤخذ من كل مال زكوي سواء كان صاحبه من أهل الجزية أو لم يكن ، ولأن نساءهم ، وصبيانهم صينوا عن السبي بهذا الصلح ، ودخلوا في حكمه ، فجاز أن يدخلوا في الواجب به ، كالرجال العقلاء ؛ فعلى هذا من كان فقيرا أو له مال غير زكوي ، فلا شيء عليه ، كما لا يجب على أهل الزكاة من المسلمين . وحينئذ يتقيد بالنصاب . ( ومصرفه مصرف الجزية ) في الأشهر ؛ لأنه مأخوذ من مشرك فكان جزية ، وغايته أنه جزية مسماة بالصدقة ، ولذلك قال عمر : هؤلاء حمقى رضوا بالمعنى ، وأبوا الاسم . ( وقال الخرقي : مصرف الزكاة ) هذا [ ص: 408 ] رواية ، واختارها جمع ؛ لأنه مسمى بالصدقة فكان مصرفه مصرفها . والأول أقيس ؛ لأن المعنى أخص من الاسم ، ولو كان صدقة على الحقيقة لجاز دفعها إلى فقراء من أخذت منهم ، كصدقة المسلمين . ( ولا يؤخذ ذلك من كتابي غيرهم ) نص عليه ، لقوله تعالى : من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية [ التوبة : 29 ] ولقوله - عليه السلام - لمعاذ لما بعثه إلى اليمن خذ من كل حالم دينارا ، وهم عرب . قال الزهري : أول من أعطى الجزية أهل نجران ، وكانوا نصارى ، وأخذها من أكيدر دومة وهو عربي ، وحكمها ثابت في كل كتابي ، عربيا كان أو غيره ، إلا ما خص به بنو تغلب لمصالحة عمر إياهم فيبقى ما عداهم على مقتضى العموم . ولا يصح قياس غيرهم عليهم لأوجه . ( وقال القاضي : تؤخذ من نصارى العرب ويهودهم ) لأنهم من العرب ، أشبهوا بني تغلب ، وذكر هو وأبو الخطاب أن حكم من تنصر من تنوخ ، وتهود من كنانة ، وتمجس من تميم حكم بني تغلب سواء . وقيل : لا ، واختارها المؤلف ، وحكاه نص أحمد .

                                                                                                                          فرع : للإمام مصالحة مثلهم من العرب إذا خشي ضرره بقوة شوكة ، وأباها إلا باسم الصدقة مضعفة ، نص عليه .




                                                                                                                          الخدمات العلمية