الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              1851 باب في القبلة للصائم

                                                                                                                              وقال النووي : ( باب بيان: أن القبلة في الصوم، ليست محرمة على من لم تحرك شهوته ).

                                                                                                                              حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 216 - 217 ج 7 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه أملككم لإربه].

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              ( عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم ).

                                                                                                                              قال الشافعي: ( القبلة في الصوم )، ليست محرمة على من لم تحرك شهوته، لكن الأولى له تركها.

                                                                                                                              ولا يقال: إنها مكروهة له.

                                                                                                                              وإنما قالوا: إنها خلاف الأولى في حقه، مع ثبوت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعلها. لأنه صلى الله عليه وآله وسلم: كان يؤمن في حقه مجاوزة حد القبلة. ويخاف على غيره مجاوزتها. كما قالت عائشة.

                                                                                                                              [ ص: 56 ] ( ويباشر وهو صائم، ولكنه أملككم لإربه ).

                                                                                                                              وأما من حركت شهوته، فهي حرام في حقه، على الأصح عند الشافعية.

                                                                                                                              وقيل: مكروهة كراهة تنزيه.

                                                                                                                              قال عياض : قد قال بإباحتها للصائم مطلقا: جماعة من الصحابة، والتابعين، وأحمد، وإسحاق، وداود.

                                                                                                                              وكرهها على الإطلاق: مالك.

                                                                                                                              وقال ابن عباس، وأبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي، والشافعي: تكره للشاب دون الشيخ الكبير. وهي رواية عن مالك.

                                                                                                                              وروى ابن وهب عن مالك: إباحتها في صوم النفل، دون الفرض. وأقول: هذه الفروع والتفاصيل لا يدل عليها الدليل.

                                                                                                                              فالصحيح الذي ينبغي الاعتماد عليه: هو مذهب جماعة من القرون المشهود لها بالخير.

                                                                                                                              قال النووي : ولا خلاف أنها لا تبطل الصوم، إلا أن ينزل المني بالقبلة. واحتجوا له بالحديث المشهور في السنن

                                                                                                                              وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " أرأيت لو تمضمضت ".

                                                                                                                              ومعنى الحديث: أن المضمضة مقدمة الشرب، وقد علمتم أنها لا تفطر. وكذا القبلة مقدمة الجماع فلا تفطر.

                                                                                                                              [ ص: 57 ] وحكى الخطابي وغيره: عن ابن مسعود وسعيد بن المسيب ؛ أن من قبل قضى يوما مكان يوم القبلة. انتهى.

                                                                                                                              قلت: والحديث حجة عليهما، ولعلهما " رضي الله عنهما " لم يقفا على هذا الحديث.

                                                                                                                              قال في ( السيل الجرار ): إن وقع من الصائم سبب من الأسباب التي وقع الإمناء بها، بطل صومه.

                                                                                                                              وإن لم يتسبب بسبب، بل خرج منيه لشهوة ابتداء، وعند النظر إلى ما لا يجوز له النظر إليه، مع عدم علمه بأن ذلك مما يتسبب عنه الإمناء، فلا يبطل صومه. وما هو أعظم ممن أكل ناسيا. انتهى.

                                                                                                                              قلت: وحديث الباب له طرق وألفاظ عند مسلم ؛

                                                                                                                              منها: (قالت: كان يقبل إحدى نسائه وهو صائم، ثم تضحك ).

                                                                                                                              وفي أخرى: ( كان يقبلني وهو صائم. وأيكم يملك إربه، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه ؟ ).

                                                                                                                              وفي أخرى: ( كان يقبلها وهو صائم ).

                                                                                                                              وفي أخرى: ( كان يقبل في شهر الصوم ).

                                                                                                                              وفي لفظ: ( كان يقبل في رمضان، وهو صائم ).

                                                                                                                              إلى غير ذلك من الروايات، وكلها يدل على جواز القبلة للصائم، بل على استحبابها. ، بل على سنيتها له: ولم يفصل.

                                                                                                                              [ ص: 58 ] ولفظة: ( إرب ) بكسر الهمزة وإسكان الراء. كذا نقله الخطابي والقاضي، عن رواية الأكثرين.

                                                                                                                              وروي بفتح الهمزة والراء.

                                                                                                                              ومعناه بالكسر: ( الوطر والحاجة ). وكذا بالفتح، ولكنه يطلق المفتوح أيضا على ( العضو ).

                                                                                                                              وقال الخطابي في ( معالم السنن ): هذه اللفظة تروى على وجهين: الفتح والكسر.

                                                                                                                              قال: ومعناهما واحد، وهو حاجة النفس ووطرها.

                                                                                                                              يقال: لفلان على فلان: إرب وأرب وإربة ومأربة. أي: ( حاجة ).

                                                                                                                              قال: ( والأرب ) أيضا: ( العضو ).

                                                                                                                              قال أهل العلم: معنى كلام عائشة، أنه ينبغي لكم الاحتراز عن القبلة، ولا تتوهموا من أنفسكم: أنكم مثل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في استباحتها. لأنه يملك نفسه، ويأمن الوقوع في قبلة يتولد منها إنزال، أو شهوة، أو هيجان نفس، ونحو ذلك. وأنتم لا تأمنون ذلك.

                                                                                                                              فطريقكم: الانكفاف عنها.

                                                                                                                              قال النووي : وفيه: جواز الإخبار عن مثل هذا، مما يجري بين الزوجين على الجملة، للضرورة.

                                                                                                                              [ ص: 59 ] وأما في غير حال الضرورة، فمنهي عنه.

                                                                                                                              ومعنى ( المباشرة ) هنا: ( اللمس باليد ). وهو من التقاء البشرتين. انتهى.

                                                                                                                              وورد في حديث عمر بن أبي سلمة: ( أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيقبل الصائم ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سل هذه " لأم سلمة. فأخبرته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك. فقال: يا رسول الله ! قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما والله ! إني لأتقاكم لله وأخشاكم له " ).

                                                                                                                              قال النووي : سبب قول هذا القائل:

                                                                                                                              أنه ظن أن جواز التقبيل للصائم، من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ( وأنه لا حرج عليه ) فيما يفعل، لأنه مغفور له. فأنكر عليه صلى الله عليه وسلم هذا. وقال: أنا أتقاكم لله وأشدكم خشية، فكيف تظنون أو تجوزون علي ارتكاب منهي عنه ونحوه ؟

                                                                                                                              وقد جاء في هذا الحديث في غير مسلم:

                                                                                                                              ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، غضب حين قال القائل هذا القول ).

                                                                                                                              وجاء في (الموطأ ): فيه يحل الله لرسوله ما شاء. والله أعلم.

                                                                                                                              [ ص: 60 ] هذا كلام النووي.

                                                                                                                              وأقول: ظاهر هذا الحديث فيه دلالة، على أن التقبيل للصائم في صوم رمضان سنة.

                                                                                                                              ولكن قال الشوكاني في (وبل الغمام ): دل قوله صلى الله عليه وآله وسلم وفعله: على إباحة ذلك للصائم.

                                                                                                                              نعم ! روي عنه أنه رخص في ذلك للشيخ، ونهى الشاب. والوجه ظاهر؛ لأن الشاب قد يفضي به التقبيل إلى الجماع، لشدة ثوران شهوته، وقد يقع له الإنزال بمجرد التقبيل.

                                                                                                                              قال: ولكن هذا الحكم أقلي لا أكثري. فالنهي يحمل على سد الذريعة ؛ لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.

                                                                                                                              وأما ( التحريم ) ؛ فلا وجه له. انتهى.

                                                                                                                              وهذا أعدل الأقوال " إن شاء الله تعالى ".




                                                                                                                              الخدمات العلمية