الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 472 ] فصل

وأما التأويلات الثلاثة، التي ذكرها في الطريق الثالث، فالكلام في إبطالها فقط، إذ لفظ الحديث مع سائر الأحاديث موافقة لهذه الطريق، كما جاء: "على صورته" و "على صورة الرحمن" / "وعلى صورتي".

أما التأويل الأول: وهو قوله: "المراد من الصورة: الصفة -كما بيناه- فيكون المعنى: أن آدم امتاز عن سائر الأشخاص، [ ص: 473 ] والأجسام بكونه عالما بالمعقولات، [قادرا] على استنباط الحرف والصناعات، وهذه صفات شريفة، مناسبة لصفات الله تعالى من بعض الوجوه، فصح قوله: ((إن الله خلق آدم على صورته)) على هذا التأويل".

فالكلام عليه من وجوه: .

أحدها: أنه تقدم [أن] لفظ الصفة سواء عني به القول الذي يوصف به الشيء، وما يدخل في ذلك من المثال العلمي الذهني، أو أريد به المعاني القائمة بالموصوف، فإن لفظ الصورة لا يجوز أن يقتصر به على ذلك، بل لا يكون لفظ الصورة إلا لصورة موجودة في الخارج، أو لما يطابقها من العلم والقول، وذلك المطابق يسمى صفة، ويسمى صورة، وأما الحقيقة الخارجية فلا تسمى صفة كما أن المعاني القائمة بالموصوف لا تسمى وحدها صورة، وإذا كان كذلك فقوله: "على صورته" لا بد أن يدل على الصورة الموجودة في [ ص: 474 ] الخارج، القائمة بنفسها، التي ليست مجرد المعاني القائمة بها، من العلم والقدرة، وإن كان لتلك صورة وصفة ذهنية، إذ وجود هذه الصورة الذهنية مستلزم لوجود تلك، وإلا كان جهلا لا علما، فسواء عنى بالصورة الصورة الخارجة، أو العلمية، لا يجوز أن يراد به مجرد المعنى القائم بالذات، والمثال العلمي المطابق لذلك.

الوجه الثاني: أن قوله إن آدم امتاز عن سائر الأشخاص والأجسام بالعلم والقدرة، إن أراد به امتيازه عن بنيه فليس كذلك، وإن أراد به امتيازه عن الملائكة والجن فهو لم يتميز بنفس العلم والقدرة، فإن الملائكة قد تعلم ما لا يعلمه آدم، كما أنها تقدر على ما لا يقدر عليه، وإن كان هو –أيضا- علمه الله ما لم تكن الملائكة تعلمه، لاسيما عند جمهور الجهمية، من المعتزلة، والمتفلسفة، ونحوهم، الذين يزعمون أن الملائكة أفضل من الأنبياء، وهو أحد أقوال هذا المؤسس، وسواء كان الأنبياء أفضل أو الملائكة فلا [ريب] [ ص: 475 ] أنه لم يتميز أحدهما عن الآخر بجنس العلم والقدرة، لكن بعلم خاص وقدرة خاصة.

وأيضا فأهل السنة الذين يقولون: (الأنبياء والأولياء أفضل من الملائكة، لا يقولون إنهم خلقوا على صفة الكمال، التي هم بها أفضل من الملائكة بل يقولون): إن الله ينقلهم من حال إلى حال، حتى يكونوا في نهايتهم أفضل من الملائكة في نهايتهم.

فقد ثبت باتفاق الطوائف أن آدم لم يخلق [على] صفة من العلم والقدرة امتاز بها عن سائر الأشخاص والأجسام، بل في الأشخاص والأجسام من كان امتيازه عن آدم بالعلم والقدرة أكثر.

الوجه الثالث: أن يقال: المشاركة في بعض الصفات واللوازم البعيدة إما أن [تصحح] قول القائل: إن الله خلق ذلك الموصوف على صورة الله، أو لا تصحح ذلك، فإن لم تصحح ذلك بطل قولك: إن خلق آدم على هذه الصفات التي جعلتها بعض اللوازم يصحح قوله: إن الله خلق آدم على [ ص: 476 ] صورة الرحمن. وإن كانت تلك المشاركة تصحح هذا الإطلاق صح أن يقال: إن الله خلق كل ملك من الملائكة على صورته، بل خلق كل حي على صورته، بل ما من شيء من الأشياء إلا وهو يشاركه في بعض اللوازم البعيدة، ولو أنه القيام بالنفس وحمل الصفات فيصح أن يقال في كل جسم وجوهر: إن الله خلقه على صورته. على هذا التقدير.

الوجه الرابع: أن لفظ الحديث: "إذا قاتل أحدكم أو ضرب أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته" فنهى عن ضرب الوجه، لأن الله خلق آدم على صورته فلو كان المراد مجرد خلقه عالما قادرا ونحو ذلك لم يكن للوجه بذلك اختصاص، بل لا بد أن يريد الصورة التي يدخل فيها الوجه.

الوجه الخامس: الحديث الآخر: "لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته" فنهى عن تقبيح الوجه المشبه لوجه آدم، لأن الله خلق آدم على صورته، وهذا يقتضي أنه نهى عن ذلك لتناوله لله، وأن أدخل وجه ابن آدم فيما خلقه الله على صورته.

التالي السابق


الخدمات العلمية