الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          أحوال المنافقين وصفاتهم

                                                          وقد بين سبحانه صفات المنافقين الذين لا يرجى إيمانهم، فقال تعالت كلماته:

                                                          المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون

                                                          إن المنافقين ينعزلون عن الجماعة المؤمنة، فهم في نفرة عنهم، ويكونون أنفسهم جماعة موحدة يجمعها فكر عام موحد يناقض الجماعة العامة التي يعيشون فيها، فلا يرضيهم ما يرضي الجماعة بل يخالفونها ويناقضونها فيما تفكر وفيما تعمل، فقد عزلوا أنفسهم عنها، فإذا كانت الجماعة العامة متضافرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهم عكسوا، معروفهم منكر عند جماعة المؤمنين، ومنكرهم هو المعروف، ولذا قال تعالى:

                                                          المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض أي: أنهم كل متصل الأجزاء، ولايتهم واحدة وتناصرهم واحد، وفي هذا تكذيب ليمينهم الكاذب فيما نقله سبحانه عنهم ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم وهو تأكيد لما قاله سبحانه في نفي أنهم منكم.

                                                          [ ص: 3363 ] وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أنهم متضافرون في أسرهم، فأسرهم في الجملة منافقة، ولذا ذكر سبحانه وتعالى المنافقات مع المنافقين، وقال تعالى: بعضهم من بعض أي: أنهم لحمة متصلة يتغذى بعضهم بلبان النفاق من بعض، فهم بيئة واحدة يغذيها لبن النفاق، أو بالأحرى سمه.

                                                          وقد ذكر سبحانه أحوالهم:

                                                          أولاها: أنهم ينشرون الفساد في الفكر والعمل، فلهم رأي عام يخصهم يسوده الفساد في النفوس والأخلاق، يشجع الرذيلة ويتهكم على الفضيلة، وعبر سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله: يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف يشجعون كل ما هو شر، ويمنعون كل ما هو خير، معروفهم منكر، ومنكرهم هو المعروف، وهكذا يقضي الله على بعض الجماعات الإنسانية بالشر، كما نرى الآن من منافقي عصرنا، فعدلهم ظلم وحريتهم اعتداء، وشوراهم استبداد.

                                                          الثانية: أنهم غير متعاونين في ذات أنفسهم، وفي جماعتهم فلا ينفقون في خير قط، والشح يستولي على نفوسهم، ولا يجعلون أنفسهم في وقاية منه، بين تعالى في ذلك الوصف بقوله تعالى: ويقبضون أيديهم القبض ضد البسط، وقبض اليد غلها عن الإنفاق، فعبر عن عدم الإنفاق في موضعه بقبض اليد، كما عبر عن الإنفاق في موضعه ببسط اليد، كما قال تعالى: وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء

                                                          الثالثة: أنهم ينسون الخير نسيانا، فإذا ذكر لهم الخير تهكموا بصاحبه، وقالوا مستهزئين متهكمين بمن يتكلم في الفضيلة، وهذا عبر الله عنه بقوله: نسوا الله فنسيهم أي: نسوا الله تعالى فلا تذكره قلوبهم، ولا تطمئن به، إن القلوب إذا نسيت الله لا تطيع أمره، ولا تجتنب نواهيه، ونسيان الله تعالى ألا يوفقهم لخير، وأن يجعلهم منغمسين في الشر الذي اختاروه والضلال الذي أحيط بهم.

                                                          [ ص: 3364 ] وإن المنافقين قد ينفقون في حالين: إحداهما أن يستروا نفاقهم، كما كان المعتذرون المتخلفون عن الجهاد يعتذرون عن الخروج، ويقولون هذه أموالنا خذوا منها ما شئتم.

                                                          والحال الرابعة - أن ينفقوا في الشر لتأييد الفاسدين، وقد نسوا رقابة الله، فنسيهم ، أي: فتركهم يرتعون ويعبثون حتى يوم الحساب، ولقد قال تعالى حاكما عليهم: إن المنافقين هم الفاسقون الفسق هو الخروج والتمرد على الحقائق، وهو هنا أشد من الكفر، فهم كافرون بنفاقهم إذ يسترون الكفر، ويظهرون الإسلام، وبهذه المساوئ التي أشار إليها الكتاب العزيز، فيتمردون على الله، ويعاندونه، ويحادونه إذ يحادون الحق.

                                                          وقد قال الزمخشري: إن فسقهم هو الفسق الكامل، ونقول إن الله تعالى أكد فسقهم، بالجملة الاسمية، وب (إن) ، وقصرهم على الفسق بتعريف الطرفين، وبضمير الفصل (هم) ، أي: أنهم مقصورون على الفسق لا يخرجون من دائرته فهو محيط بهم، إحاطة الدائرة بقطرها.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية