الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( ثم يتوبون من قريب )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى : " القريب " في هذا الموضع .

فقال بعضهم : معنى ذلك : ثم يتوبون في صحتهم قبل مرضهم وقبل موتهم .

ذكر من قال ذلك :

8844 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ثم يتوبون من قريب ، والقريب قبل الموت ما دام في صحته .

8845 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبي النضر ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : ثم يتوبون من قريب ، قال : في الحياة والصحة .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم يتوبون من قبل معاينة ملك الموت .

[ ص: 94 ] ذكر من قال ذلك .

8846 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ثم يتوبون من قريب ، والقريب فيما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت .

8847 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا المعتمر بن سليمان قال : سمعت عمران بن حدير قال : قال أبو مجلز : لا يزال الرجل في توبة حتى يعاين الملائكة .

8848 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس قال : القريب ، ما لم تنزل به آية من آيات الله تعالى ، وينزل به الموت .

4849 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ، وله التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملك الموت ، فإذا تاب حين ينظر إلى ملك الموت ، فليس له ذاك .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم يتوبون من قبل الموت .

ذكر من قال ذلك :

8850 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن رجل ، عن الضحاك ، ثم يتوبون من قريب ، قال : كل شيء قبل الموت فهو قريب .

8851 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة : ثم يتوبون من قريب ، قال : الدنيا كلها قريب . [ ص: 95 ] 8852 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ثم يتوبون من قريب ، قبل الموت .

8853 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا معاذ بن هشام قال : حدثني أبي ، عن قتادة ، عن أبي قلابة قال : ذكر لنا أن إبليس لما لعن وأنظر ، قال : وعزتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح . فقال تبارك وتعالى : وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح .

8854 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عمران ، عن قتادة قال : كنا عند أنس بن مالك وثم أبو قلابة ، فحدث أبو قلابة قال : إن الله تبارك وتعالى لما لعن إبليس سأله النظرة ، فقال : وعزتك لا أخرج من قلب ابن آدم ! فقال الله تبارك وتعالى : وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح .

8855 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة قال : إن الله تبارك وتعالى لما لعن إبليس سأله النظرة ، فأنظره إلى يوم الدين ، فقال : وعزتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح ! قال : وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح .

8856 - حدثني ابن بشار قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا عوف ، عن الحسن قال : بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن إبليس لما رأى آدم أجوف قال : وعزتك لا أخرج من جوفه ما دام فيه الروح ! فقال الله تبارك وتعالى : وعزتي لا أحول بينه وبين التوبة ما دام فيه الروح .

[ ص: 96 ] 8857 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا معاذ بن هشام قال : حدثني أبي ، عن قتادة ، عن العلاء بن زياد ، عن أبي أيوب بشير بن كعب : أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " .

8858 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عبادة بن الصامت : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فذكر مثله .

8859 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله تبارك وتعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : تأويله : ثم يتوبون قبل مماتهم ، في الحال التي يفهمون فيها أمر الله تبارك وتعالى ونهيه ، وقبل أن يغلبوا على أنفسهم وعقولهم ، وقبل حال اشتغالهم بكرب الحشرجة وغم الغرغرة ، فلا يعرفوا أمر الله ونهيه ، ولا يعقلوا التوبة ، لأن التوبة لا تكون توبة إلا من ندم [ ص: 97 ] على ما سلف منه ، وعزم منه على ترك المعاودة ، وهو يعقل الندم ، ويختار ترك المعاودة : فأما إذا كان بكرب الموت مشغولا وبغم الحشرجة مغمورا ، فلا إخاله إلا عن الندم على ذنوبه مغلوبا . ولذلك قال من قال : " إن التوبة مقبولة ، ما لم يغرغر العبد بنفسه " فإن كان المرء في تلك الحال يعقل عقل الصحيح ، ويفهم فهم العاقل الأريب ، فأحدث إنابة من ذنوبه ، ورجعة من شروده عن ربه إلى طاعته ، كان إن شاء الله ممن دخل في وعد الله الذي وعد التائبين إليه من إجرامهم من قريب بقوله : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب .

التالي السابق


الخدمات العلمية