الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 424 ] مسألة [ هل يعتبر بخلاف الظاهرية في الإجماع ] ذهب قوم منهم القاضي أبو بكر ، والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ، ونسبه إلى الجمهور أنه لا يعتد بخلاف من أنكر القياس في الحوادث الشرعية ، وتابعهم إمام الحرمين ، والغزالي ، قالوا ; لأن من أنكره لا يعرف طرق الاجتهاد ، وإنما هو متمسك بالظواهر ، فهو كالعامي الذي لا معرفة له ، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أبي علي بن أبي هريرة ، وطائفة من أقرانه ، وقال الأصفهاني شارح المحصول " : يلزم القائل بذلك أنه لا يعتبر خلاف منكر العموم ، وخبر الواحد ، ولا ذاهب إليه . قلت : نقل الأستاذ عن ابن أبي هريرة - رحمه الله - أنه طرد قوله في منكر أخبار الآحاد ، ومن توقف في الظواهر والعموم . قال : لأن الأحكام الشرعية تستنبط من هذه الأصول ، فمن أنكرها وتوقف فيها لم يكن من أهل الاجتهاد ، فلا يعتبر بخلافه . قال النووي في باب السواك في شرح مسلم " : إن مخالفة داود لا تقدح في انعقاد الإجماع على المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون ، وكذا قال صاحب " المفهم " جل الفقهاء والأصوليين على أنه لا يعتد بخلافهم ، بل هم من جملة العوام ، وإن من اعتد بهم فإنما ذلك ; لأن مذهبه أنه يعتبر خلاف العوام في انعقاد الإجماع ، والحق خلافه .

                                                      وذكر غيره أنهم في الشرعيات كالسوفسطائية في العقليات ، وكذا قال أبو بكر الرازي من الحنفية : لا يعتد بخلافهم ، ولا يؤنس بوفاقهم . [ ص: 425 ] وقال القاضي عبد الوهاب في الملخص " : يعتبر كما يعتبر خلاف من ينفي المراسيل ، ويمنع العموم ومن حمل الأمر على الوجوب ; لأن مدار الفقه على هذه الطرق ، ونقل ابن الصلاح عن الأستاذ أبي منصور أنه حكى عن ابن أبي هريرة وغيره ، أنهم لا يعتد بخلافهم في الفروع ، ويعتد بخلافهم في الأصول ، وقال إمام الحرمين : المحققون لا يقيمون لخلاف الظاهرية وزنا ; لأن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد ، ولا تفي النصوص بعشر معشارها .

                                                      وقال في كتاب اللعان : إن قول داود بإجزاء الرقبة المعيبة في الكفارة نقل الشافعي - رحمه الله تعالى - الإجماع على خلافه . قال : وعندي أن الشافعي لو عاصر داود لما عده من العلماء ، وقال الإبياري : هذا غير صحيح عندنا على الإطلاق ، بل إن كانت المسألة مما تتعلق بالآثار والتوقيف واللفظ اللغوي ، ولا مخالف للقياس فيها لم يصح أن ينعقد الإجماع بدونهم إلا على رأي من يرى أن الاجتهاد لا يتجزأ . فإن قلنا : بالتجزؤ ، لم يمنع أن يقع النظر في فرع هم فيه محقون ، كما نعتبر خلاف المتكلم في المسألة الكلامية ; لأن له فيه مدخلا ، كذلك أهل الظاهر في غير المسائل القياسية يعتد بخلافهم . وقال ابن الصلاح : الذي استقر عليه الأمر ما اختاره الأستاذ أبو منصور ، وحكاه عن الجمهور ، وأن الصحيح من المذهب الاعتداد بخلافهم ، ولهذا يذكر الأئمة من أصحابنا خلافهم في الكتب الفرعية . [ ص: 426 ] ثم قال : والذي أجيب به بعد الاستخارة : أن داود يعتبر قوله ، ويعتد به في الإجماع إلا ما خالف القياس ، وما أجمع عليه القياسيون من أنواعه أو بناه على أصوله التي قام الدليل القاطع على بطلانها ، فاتفاق من سواه على خلافه إجماع ينعقد ، فقول المخالف حينئذ خارج عن الإجماع ، كقوله في التغوط في الماء الراكد ، وتلك المسائل الشنيعة ، وفي " لا ربا إلا في النسيئة " المنصوص عليها ، فخلافه في هذا وشبهه غير معتد به . ا هـ . فتحصلنا على خمسة آراء في المسألة .

                                                      وقد اعترض ابن الرفعة على إطلاق إمام الحرمين بأن القاضي الحسين نقل عن الشافعي - رضي الله عنه - أنه قال في الكتابة : لا أمتنع من كتابة العبد عند جمع القوة والأمانة ، وإنما أستحب الخروج من الخلاف ، فإن داود أوجب كتابة من جمع بين القوة والأمانة ، وداود من أهل الظاهر ، وقد أقام الشافعي لخلافه وزنا ، واستحب كتابة من ذكره لأجل خلافه . ا هـ . وهذا وهم عجيب من ابن الرفعة ; لأن داود إنما ولد قبل وفاة الشافعي بسنتين ; لأنه ولد سنة اثنتين ومئتين ، ولا يمكن أن يقال : اعتبر الشافعي خلافه ، فغلط ابن الرفعة لأجل فهمه أن هذه الجملة من كلام الشافعي ، وليس كذلك وإنما استحب هو ، بفتح الحاء ، وهو من كلام القاضي الحسين والمستحب هو القاضي الحسين ، لكنه علله بتعليل غير صحيح لما ذكرناه .

                                                      نعم ، أوجبها قبل غير داود ، فالمراد الخلاف الذي عليه داود لا خصوص داود على أنه قد قيل : إن كلام القاضي الحسين مستقيم ، والجملة من قول الشافعي ، وليس المراد صاحب الظاهر ، بل المراد به [ ص: 427 ] داود بن عبد الرحمن العطار شيخ الشافعي بمكة ، الذي قال فيه الشافعي : ما رأيت أورع منه ، ولعله الذي نقل عنه الشافعي وجوب العقيقة ، فإن الشافعي قال كما حكاه عنه الإمام في " النهاية " : في باب العقيقة أفرط في العقيقة رجلان ، رجل قال بوجوبها ، وهو داود ، ورجل قال ببدعتها وهو أبو حنيفة ، وكلام القاضي الحسين في التعليق لا يقتضي أن يكون هو داود الظاهري ; لأنه نقل عن الشافعي أنه قال : أستحب كتابة من جمع بين القوة والأمانة للخروج من الخلاف ، فإن داود يوجب كتابة من جمع بين القوة والأمانة ، ولم يقل داود الظاهري كما نقله ابن الرفعة .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية