الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 577 ] 109 - فصل

                          [ إجارة دار المسلم لأهل الذمة ]

                          فهذا حكم إجارة نفسه لهم ، وأما إجارة داره لأهل الذمة فقال الخلال : ( باب الرجل يؤاجر داره للذمي أو يبيعها منه ) ثم ذكر عن المروذي أن أبا عبد الله سئل عن رجل باع داره من ذمي وفيها محاريب ؟ فاستعظم ذلك ، وقال نصراني ؟ ! ! لا تباع ، يضرب فيها الناقوس وينصب فيها الصلبان !

                          وقال : لا تباع من الكافر ، وشدد في ذلك .

                          وعن أبي الحارث أن أبا عبد الله سئل عن الرجل يبيع داره ، وقد جاءه نصراني فأرغبه وزاده في ثمن الدار ، ترى أن يبيع منه وهو نصراني أو يهودي أو مجوسي ؟ قال : لا أرى له ذلك يبيع داره من كافر يكفر فيها ، يبيعها من مسلم أحب إلي ، فهذا نص على المنع .

                          [ ص: 578 ] ونقل عنه إبراهيم بن الحارث : قيل لأبي عبد الله : الرجل يكري منزله من الذمي ، ينزل فيه وهو يعلم أنه يشرب فيه الخمر ويشرك فيه ؟ فقال : ابن عون كان لا يكري إلا من أهل الذمة ، يقول : يرعبهم ، قيل له : كأنه أراد إذلال أهل الذمة بهذا ؟ قال : لا ، ولكنه أراد أنه كره أن يرعب المسلمين ، يقول : إذا جئته أطلب الكراء من المسلم أرعبته ، فإذا كان ذميا كان أهون عنده ، وجعل أبو عبد الله يعجب من ابن عون فيما رأيت .

                          [ ص: 579 ] وهكذا نقل الأثرم سواء ، ولفظه : " قلت لأبي عبد الله " ، ومسائل الأثرم وإبراهيم بن الحارث يشتركان فيها غالبا .

                          ونقل عنه مهنا : سألت أحمد عن الرجل يكري المجوسي داره أو دكانه وهو يعلم أنهم يربون ؟ فقال : كان ابن عون لا يرى أن يكري المسلم ، ويقول : أرعبهم في أخذ الغلة ، وكان يرى أن يكري غير المسلمين .

                          قال الخلال : كل من حكى عن أبي عبد الله في الرجل يكري داره من ذمي فإنما أجابه أبو عبد الله على فعل ابن عون ، ولم ينقل لأبي عبد الله فيه قول ، وقد حكى عنه إبراهيم أنه رآه معجبا بقول ابن عون والذين رووا عن أبي عبد الله في المسلم يبيع داره من الذمي أنه كره ذلك كراهية شديدة ، فلو نقل لأبي عبد الله في السكنى كان السكنى والبيع عندي واحدا .

                          [ ص: 580 ] والأمر في ظاهر قول أبي عبد الله أنه لا يباع منه ; لأنه يكفر فيها وينصب الصلبان وغير ذلك .

                          والأمر عندي ألا يباع منه ولا يكرى لأنه معنى واحد .

                          قال : وقد أخبرني أحمد بن الحسين بن حسان قال : سئل أبو عبد الله عن حصين بن عبد الرحمن ، فقال : روى عنه حفص لا أعرفه .

                          قال له أبو بكر : هذا من النساك .

                          [ ص: 581 ] حدثني أبو سعيد الأشج : سمعت أبا خالد الأحمر يقول : حفص هذا نفسه باع دار حصين بن عبد الرحمن عابد أهل الكوفة من عون البصري ! فقال له أحمد : حفص ؟ قال : نعم ، فعجب أحمد من حفص بن غياث .

                          قال الخلال : وهذا أيضا تقوية لمذهب أبي عبد الله [ فعلى هذا العمل من قوله : أنه على الكراهية في الجميع ]

                          قال شيخنا : وعون هذا كان من أهل البدع أو من الفساق بالعمل ، فأنكر أبو خالد الأحمر على حفص بن غياث قاضي الكوفة أنه باع دار الرجل الصالح من مبتدع ، وعجب أحمد من فعل القاضي .

                          [ ص: 582 ] قال الخلال : وإذا كان يكره بيعها من فاسق فكذلك من كافر ، وإن كان الذمي يقر والفاسق لا يقر لكن ما يفعله الكافر فيها أعظم ، وهكذا ذكر القاضي عن أبي بكر عبد العزيز ، وقد ذكر قول أحمد في رواية أبي الحارث : لا أرى أن يبيع داره من كافر يكفر بالله فيها ، يبيعها من مسلم أحب إلي .

                          فقال أبو بكر : لا فرق بين الإجارة والبيع عنده فإذا أجاز البيع أجاز الإجارة ، وإذا منع البيع منع الإجارة ، ووافقه القاضي وأصحابه على ذلك .

                          قال شيخنا : وتلخيص الكلام في ذلك : أما بيع داره من كافر فقد ذكرنا منع أحمد منه ثم اختلف أصحابه في ذلك هل هذا تنزيه أو تحريم ؟ فقال الشريف أبو علي بن أبي موسى : كره أحمد أن يبيع مسلم داره من ذمي يكفر فيها بالله تعالى ، ويستبيح المحظورات ، فإن فعل أساء ولم يبطل البيع .

                          وكذلك أبو الحسن الآمدي أطلق الكراهة مقتصرا عليها .

                          وأما الخلال وصاحبه والقاضي فمقتضى كلامهم تحريم ذلك ، وصرح به القاضي فقال : لا يجوز أن يؤاجر داره أو بيته ممن يتخذه كنيسة أو بيت نار ، أو يبيع فيه الخمر ، سواء شرط أنه يبيع فيه الخمر أم لم يشرط ، [ ص: 583 ] لكنه يعلم أنه يبيع فيه الخمر ، وقد قال أحمد في رواية أبي الحارث : لا أرى أن يبيع داره من كافر يكفر فيها بالله " إلى آخر كلامه .

                          قال القاضي : وقال أحمد أيضا في نصارى وقفوا ضيعة لهم البيعة : لا يستأجرها الرجل المسلم منهم يعينهم على ما هم فيه ، قال : وبهذا قال الشافعي .

                          ثم قال القاضي : فإن قيل : أليس قد أجاز أحمد إجارتها من أهل الذمة مع علمه بأنهم يفعلون فيها ذلك ؟ قيل : المنقول عن أحمد أنه حكى قول ابن عون وعجب منه ، وذكر القاضي رواية الأثرم ، وهذا يقتضي أن القاضي لا يجيز إجارتها من ذمي ، وقد قال أبو بكر : إذا أجاز البيع أجاز الإجارة ، وإذا منع منع .

                          قال شيخنا : وكلام أحمد يحتمل الأمرين فإن قوله في رواية أبي الحارث : يبيعها من مسلم أحب إلي ، يقتضي أنه منع تنزيه واستعظامه لذلك في رواية المروذي ، وقوله : لا يباع من الكافر ، وتشديده في ذلك يقتضي التحريم .

                          وأما الإجارة فقد سوى الأصحاب بينها وبين البيع وما حكاه عن ابن عون فليس بقول أحمد ، وإعجابه بفعله إنما هو لحسن مقصد ابن عون ونيته الصالحة ، ويمكن أن يقال : ظاهر الرواية أنه أجاز ذلك ، فإن إعجابه بالفعل دليل جوازه عنده ، واقتصاره على الجواب بفعل رجل يقتضي أنه مذهبه في أحد الوجهين .

                          والفرق بين الإجارة والبيع أن ما في الإجارة من مفسدة الإعانة قد [ ص: 584 ] عارضه مصلحة أخرى ، وهي صرف إرعاب المطالبة بالكراء عن المسلم ، وإنزال ذلك بالكافر وصار ذلك بمنزلة إقرارهم بالجزية ، فإنه وإن كان إقرارا لكافر لكن لما تضمنه من المصلحة جاز ، ولذلك جازت مهادنة الكفار في الجملة .

                          فأما البيع فهذه المصلحة منتفية فيه ، وهذا ظاهر على قول ابن أبي موسى وغيره أن البيع مكروه غير محرم ، فإن الكراهة في الإجارة تزول بهذه المصلحة الراجحة ، كما في نظائرها فيصير في المسألة أربعة أقوال .

                          قال شيخنا وهذا الخلاف عندنا والتردد في الكراهة هو إذا لم يعقد الإجارة على المنفعة المحرمة ، فأما إن أجره إياها لأجل بيع الخمر أو اتخاذها كنيسة أو بيعة لم يجز ، قولا واحدا وبه قال الشافعي وغيره ، كما لا يجوز أن يكري أمته أو عبده للفجور .

                          وقال أبو حنيفة : يجوز أن يؤاجرها لذلك .

                          قال أبو بكر الرازي : لا فرق عند أبي حنيفة بين أن يشترط أن يبيع فيه الخمر وبين ألا يشترط ، لكنه يعلم أنه يبيع فيه الخمر ، أن الإجارة تصح ومأخذه في ذلك أنه لا يستحق عليه بعقد الإجارة فعل هذه الأشياء ، وإن شرط له ألا يبيع فيها الخمر ولا يتخذها كنيسة ، ويستحق عليه الأجرة [ ص: 585 ] بالتسليم في المدة فإذا لم يستحق عليه فعل هذه الأشياء كان ذكرها وترك ذكرها سواء ، كما لو اكترى دارا لينام فيها أو يسكنها فإن الأجرة تستحق عليه وإن لم يفعل ذلك ، وكذلك يقول فيما إذا استأجر رجلا لحمل خمر أو خنزير أنه يصح ; لأنه لا يتعين حمل الخمر ، بل لو حمل عليه بدله عصيرا استحق الأجرة ، فهذا التقييد عنده لغو ، فهو بمنزلة الإجارة المطلقة ، والمطلقة عنده جائزة ، وإن غلب على ظنه أن المستأجر يعصي فيها ، كما يجوز بيع العصير لمن يتخذه خمرا ، ثم إنه كره بيع السلاح في الفتنة ، قال : لأن السلاح معمول للقتال لا يصلح لغيره ، وعامة الفقهاء خالفوه في المقدمة الأولى ، وقالوا : ليس المقيد كالمطلق ، بل المنفعة المعقود عليها هي المستحقة ، فتكون هي المقابلة بالعوض وهي منفعة محرمة ، وإن جاز للمستأجر أن يقيم مثله مقامه ، وألزموه ما لو اكترى دارا ليتخذها مسجدا ، فإنه لا يستحق عليه فعل المعقود عليه ، ومع هذا فإنه أبطل هذه الإجارة بناء على أنها اقتضت فعل الصلاة ، وهي لا تستحق بعقد إجارة .

                          ونازعه أصحابنا وكثير من الفقهاء في المقدمة الثانية وقالوا : إذا غلب على ظنه أن المستأجر ينتفع بها في محرم حرمت الإجارة له ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن عاصر الخمر ومعتصرها والعاصر إنما يعصر عصيرا لكن إذا رأى أن المعتصر يريد أن يتخذه خمرا أو عصيرا استحق اللعنة ، وهذا أصل مقرر في غير هذا الموضع لكن معاصي الذمي قسمان :

                          أحدهما : ما اقتضى عقد الذمة إقراره عليها .

                          [ ص: 586 ] والثاني : ما اقتضى عقد الذمة منعه منها أو من إظهارها .

                          فأما القسم الثاني فلا ريب أنه لا يجوز على أصل أحمد أن يؤاجر أو يبايع إذا غلب على الظن أنه يفعل ذلك كالمسلم وأولى .

                          وأما القسم الأول فعلى ما قاله ابن أبي موسى : يكره ولا يحرم ; لأنا قد أقررناه على ذلك ، وإعانته على سكنى هذه الدار كإعانته على سكنى دار الإسلام ، فلو كان هذا من الإعانة المحرمة لما جاز إقراره بالجزية وإنما كره ذلك ; لأنه إعانة من غير مصلحة لإمكان بيعها من مسلم بخلاف الإقرار بالجزية فإنه جاز لأجل المصلحة ، وعلى ما قاله القاضي : لا يجوز ; لأنه إعانة على ما يستعين به على المعصية من غير مصلحة تقابل هذه المفسدة ، فلم يجز بخلاف إسكانهم دار الإسلام ، فإن فيه من المصالح ما هو مذكور في فوائد إقرارهم بالجزية .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية