الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 445 ] اتفاق أهل المدينة مراتب عدة ] وقال بعض المتأخرين : التحقيق في هذه المسألة أن منها ما هو كالمتفق عليه ، ومنها ما يقول به جمهورهم . ومنها ما يقول به بعضهم . فالمراتب أربعة : إحداها : ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كنقلهم لمقدار الصاع والمد ، فهذا حجة بالاتفاق . ولهذا رجع أبو يوسف إلى مالك فيه ، وقال : لو رأى صاحبي كما رأيت لرجع كما رجعت ، ورجع إليه في الخضراوات . فقال : هذه بقائل أهل المدينة لم يؤخذ منها صدقة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أبي بكر ولا عمر ، وسأل عن الأحباس . فقال : هذا حبيس فلان ، وهذا حبيس فلان ، فذكر أعيان الصحابة . فقال له : أبو يوسف : وكل هذا قد رجعت إليك . الثانية : العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان ، فهذا كله هو حجة عند مالك حجة عندنا أيضا . ونص عليه الشافعي . فقال في رواية يوسف بن عبد الأعلى : إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء فلا يبق في قلبك ريب أنه الحق ، وكذا هو ظاهر مذهب أحمد ، فإن عنده أن ما سنه الخلفاء الراشدون حجة يجب اتباعها ، وقال أحمد : كل بيعة كانت بالمدينة فهي خلافة نبوة ، ومعلوم أن بيعة الصديق ، وعمر ، وعثمان ، وعلي كانت بالمدينة ، وبعد ذلك لم يعقد بها بيعة ، ويحكى عن أبي حنيفة أن قول الخلفاء عنده حجة .

                                                      الثالثة : إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين وقياسين فهل يرجح [ ص: 446 ] أحدهما بعمل أهل المدينة ؟ وهذا موضع الخلاف . فذهب مالك والشافعي إلى أنه مرجح ، وذهب أبو حنيفة إلى المنع ، وعند الحنابلة قولان : أحدهما : المنع ، وبه قال القاضي أبو يعلى ، وابن عقيل . والثاني : مرجح ، وبه قال أبو الخطاب ، ونقل عن نص أحمد ، ومن كلامه : إذا روى أهل المدينة حديثا وعملوا به فهو الغاية . الرابعة : النقل المتأخر بالمدينة . والجمهور على أنه ليس بحجة شرعية ، وبه قال الأئمة الثلاثة ، وهو قول المحققين من أصحاب مالك كما ذكره القاضي عبد الوهاب في " الملخص " . فقال : إن هذا ليس إجماعا ولا حجة عند المحققين ، وإنما يجعله حجة بعض أهل المغرب من أصحابه ، وليس هؤلاء من أئمة النظر والدليل ، وإنما هم أهل تقليد . وجعل أبو الحسن الإبياري المراتب خمسة : أحدها : الأعمال المنقولة عن أهل المدينة بالاستفاضة ، فلا خلاف في اعتمادها . ثانيها : أن يرووا أخبارا ويخالفوها ، وقد تقدم الكلام عليه . قال : واختار إمام الحرمين أن الراوي الواحد إذا فعل ذلك سقط التمسك بروايته ، ويرجع إلى عمله فما الظن بعلماء أهل المدينة جملة . ثالثها : أن لا ينقلوا الخبر ، ولكن يصادف خبر على نقيض حكمهم ( أهل المدينة ) ، فهذه أضعف من الأولى ، ولكن غلبة الظن حاصلة بأن الخبر لا يخفى عن جميعهم ; لهبوط الوحي في بلدهم ، ومعرفتهم بالسنة ، ولهذا كانوا يرجعون إليهم . ويبعثون يسألون منهم ، فينزل منزلة ما لو رأوا وخالفوا . [ ص: 447 ]

                                                      رابعها : أن لا ينقل خبر على خلاف قضائهم ، ولكن القياس على غير ذلك . فهذا فيه نظر ، فقد يقال : إنهم لم يخالفوا القياس مع كونه حجة شرعية إلا بتوقيف ، وقد يقال : لا يوافقون ، ولهذا اختلف مالك في هذه الصورة ، كالقصاص بين الحر والعبد ، والمسلم والكافر في الأطراف . خامسها : أن يصادف قضاؤهم على خلاف خبر منقول عنهم أو عن غيرهم ، لا عن خلاف قياس ، حتى يستدل به على خبر لأجل مخالف القياس ، فالصواب عندي في هذه الصورة عدم الالتفات إلى المنقول ، ويتبع الدليل . ا هـ .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية