الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى ( ولا يكره من ذلك إلا ما قصد إلى تشميسه فإنه يكره الوضوء به ، ومن أصحابنا من قال : لا يكره كما لا يكره بماء تشمس في البرك والأنهار ، والمذهب : الأول ، والدليل عليه ما روي : { أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 133 ] قال لعائشة وقد سخنت ماء بالشمس يا حميراء لا تفعلي هذا ، فإنه يورث البرص } ( ويخالف ) ماء البرك والأنهار ; لأن ذلك لا يمكن حفظه من الشمس ، ولم يتعلق به المنع ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) هذا الحديث المذكور ضعيف باتفاق المحدثين ، وقد رواه البيهقي من طرق وبين ضعفها كلها ، ومنهم من يجعله موضوعا ، وقد روى الشافعي في الأم بإسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يكره الاغتسال بالماء المشمس وقال : إنه يورث البرص ، وهذا ضعيف أيضا باتفاق المحدثين ، فإنه من رواية إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى ، وقد اتفقوا على تضعيفه وجرحوه . وبينوا أسباب الجرح إلا الشافعي - رحمه الله - فإنه وثقه ، فحصل من هذا : أن المشمس لا أصل لكراهته ، ولم يثبت عن الأطباء فيه شيء ، فالصواب : الجزم بأنه لا كراهة فيه وهذا هو الوجه الذي حكاه المصنف وضعفه .

                                      وكذا ضعفه غيره وليس بضعيف ، بل هو الصواب الموافق للدليل ولنص الشافعي ، فإنه قال في الأم : لا أكره المشمس إلا أن يكره من جهة الطب ، كذا رأيته في الأم ، وكذا نقله البيهقي بإسناده في كتابه معرفة السنن والآثار عن الشافعي ، وأما قوله في مختصر المزني : " إلا من جهة الطب لكراهة عمر لذلك وقوله : إنه يورث البرص " فليس صريحا في مخالفة نصه في الأم ، بل يمكن حمله عليه ، فيكون معناه لا أكرهه إلا من جهة الطب إن قال أهل الطب : إنه يورث البرص ، فهذا ما نعتقده في المسألة وما هو كلام الشافعي .

                                      ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وداود والجمهور : أنه لا كراهة كما هو المختار . وأما الأصحاب فمجموع ما ذكروا فيه سبعة أوجه .

                                      ( أحدها ) : لا يكره مطلقا كما سبق ( والثاني ) : يكره في كل الأواني والبلاد بشرط القصد إلى تشميسه ، وهو الأشهر عند العراقيين ، وزعم صاحب البيان أنه المنصوص وبه قطع المصنف في التنبيه والقاضي أبو علي الحسن بن عمر البندنيجي ، من كبار العراقيين في كتابه الجامع .

                                      ( والثالث ) : يكره مطلقا ولا يشترط القصد وهو المختار عند صاحب الحاوي قال : ومن اعتبر القصد فقد غلط .

                                      [ ص: 134 ] والرابع ) : يكره في البلاد الحارة في الأواني المنطبعة وهي المطرقة ، ولا يشترط القصد ولا تغطية رأس الإناء وهذا هو الأشهر عند الخراسانيين ، وغلط إمام الحرمين العراقيين في اشتراط القصد ، وعلى هذا فالمراد بالمنطبعة أوجه : ( أحدها ) : جميع ما يطرق وهو قول الشيخ أبي محمد الجويني ( والثاني ) : أنها النحاس خاصة وهو قول الصيدلاني ( والثالث ) : كل ما يطرق إلا الذهب والفضة لصفائهما ، واختاره إمام الحرمين .

                                      ( والخامس ) : يكره في المنطبعة بشرط تغطية رأس الإناء حكاه البغوي ، وجزم به شيخه القاضي حسين وصاحب التتمة ( والسادس ) : إن قال طبيبان يورث البرص كره ، وإلا فلا ، حكاه صاحب البيان وغيره وضعفوه وزعموا : أن الحديث لم يفرق فيه ولم يقيد بسؤال الأطباء ، وهذا التضعيف غلط بل هذا الوجه هو الصواب إن لم يجزم بعدم الكراهة ، وهو موافق لنصه في الأم ، لكن اشتراط طبيبين ضعيف بل يكفي واحد فإنه من باب الإخبار ( والسابع ) : يكره في البدن دون الثوب ، حكاه صاحب البيان وهو ضعيف أو غلط فإنه يوهم : أن الأوجه السابقة عامة للبدن والثوب وليس كذلك ، بل الصواب ما قاله صاحب الحاوي : أن الكراهة تختص باستعماله في البدن في طهارة حدث أو نجس أو تبرد أو تنظف أو شرب .

                                      قال : وسواء لاقى البدن في عبادة أم غيرها ، قال : ولا كراهة في استعماله فيما لا يلاقي البدن من غسل ثوب وإناء وأرض ; لأن الكراهة للبرص ، وهذا مختص بالجسد ، قال : فإن استعمله في طعام وأراد أكله ، فإن كان مائعا كالمرق ، كره وإن لم يبق مائعا كالخبز والأرز المطبوخ به لم يكره ، هذا كلام صاحب الحاوي وذكر مثله صاحب البحر وهو الإمام أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني .

                                      وإذا قلنا بالكراهة فتبرد ففي زوالها أوجه ، حكاها الروياني وغيره ، ثالثها : إن قال طبيبان : يورث البرص كره وإلا فلا . [ ص: 135 ] وحيث أثبتنا الكراهة فهي كراهة تنزيه ، وهل هي شرعية يتعلق الثواب بتركها وإن لم يعاقب على فعلها ؟ أم إرشادية لمصلحة دنيوية لا ثواب ولا عقاب في فعلها ولا بتركها ؟ فيه وجهان ذكرهما الشيخ أبو عمرو بن الصلاح ، قال : واختار الغزالي الإرشادية ، وصرح الغزالي به في درسه قال : وهو ظاهر نص الشافعي قال : والأظهر واختيار صاحبي الحاوي والمهذب وغيرهما الشرعية . قلت : هذا الثاني هو المشهور عن الأصحاب والله أعلم .

                                      ( فرع ) قوله : روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : رضي الله عنها هذه عبارة جيدة ; لأنه حديث ضعيف ، فيقال فيه : روي بصيغة التمريض ، وعائشة رضي الله عنها تكنى أم عبد الله كنيت بابن أختها أسماء عبد الله بن الزبير ، وهي عائشة بنت أبي بكر عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشية التميمية ، تلتقي مع رسول الله في مرة بن كعب ، وسبق باقي نسبها في نسب رسول الله أول الكتاب ، ومناقب عائشة كثيرة مشهورة ذكرت منها جملة صالحة في تهذيب الأسماء .

                                      توفيت سنة ثمان وقيل : تسع وقيل : سبع وخمسين بالمدينة ، ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بكرا غيرها ، وأقامت عنده تسع سنين ، وتوفي وهي بنت ثمان عشرة . وقول المصنف : " قصد إلى تشميسه " صحيح ، وزعم بعض الغالطين أنه لا يقال قصد إلى كذا بل قصد كذا ، وهذا خطأ بل يقال : قصدته وقصدت إليه وقصدت له ، ثلاث لغات حكاهن ابن القطاع وغيره . ومن أظرف الأشياء : أن اللغات الثلاث اجتمعت متوالية في حديث واحد في صحيح مسلم في نحو سطر ، عن جندب البجلي : رضي الله عنه " أن رجلا من المشركين كان إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله . وأن رجلا من المسلمين قصد غفلته " ، وهذا نصه بحروفه ، والله أعلم .

                                      وأما قوله : كما لا يكره ماء تشمس في البرك والأنهار متفق عليه ; لعدم إمكان الصيانة وتأثير الشمس .




                                      الخدمات العلمية