الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 374 ] ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون )

                          من سنة القرآن الجمع بين الوعد والوعيد والثواب والعقاب ، يبدأ بأحدهما لمناسبة السياق قبله ويقفي عليه بالآخر ؛ ولهذا عطف بيان جزاء السعداء على بيان جزاء الأشقياء فقال :

                          ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات ) أي والذين آمنوا بالله واليوم الآخر ، وعملوا الأعمال الصالحات على الوجه الذي دعتهم إليه الرسل ، وهي لا عسر فيها ولا حرج إذ ( لا نكلف نفسا إلا وسعها ) أي لا نفرض على المكلف إلا ما يكون في وسعه ، وهو ما لا يضيق به ذرعه ، ولا يشق عليه أداؤه ، وهذه جملة معترضة هنا ، وقد تقدم مثلها في آخر سورة البقرة ( مع إسناد الفعل المنفي إلى اسم الجلالة ) وما في معناها من إرادة اليسر دون العسر في آيات الصيام منها ، ومن عدم إرادة الحرج في آية الوضوء من سورة المائدة . فهذه الآيات نصوص قطعية في يسر الدين وسهولته ، وهي حجة قطعية على ما أحدثه المتوسعون في الاستنباط والاجتهاد في أحكام العبادات التي جعلوها حملا ثقيلا يعسر تعلمه ، ولا يدخل في وسع أحد عمله ( إلا المتنطعين من العباد ) حتى إن أحكام الطهارة وحدها لا يمكن تلقي ما كتبوه فيها إلا في عدة أشهر .

                          ( أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) أي أولئك الجامعون بين الإيمان والأعمال التي تصلح بها نفس الإنسان ، وتزكو فتكون أهلا للنعيم والرضوان ، هم أصحاب الجنة الذين يخلدون فيها أبدا . وقد تكرر نظيره .

                          ( ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار ) أي ونزعنا ما كان في قلوبهم من حقد وضغن مما يكون من عداوة أو حسد في الدنيا ، فلا يدخلون الجنة وفي قلوبهم أدنى لوثة مما لا يليق بتلك الدار وأهلها ، ويكون من أسباب تنغيص النعيم فيها ، تجري [ ص: 375 ] من تحتهم الأنهار فيرونها وهم في غرفات قصورهم تتدفق في جناتها وبساتينها فيزدادون حبورا لا تشوبه شائبة كدر . روى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال : بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا فيدخلون الجنة وليس في قلوب بعضهم على بعض غل " وروى هو وابن جرير وأبو الشيخ عن السدي قال : إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور ، واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبدا . وروي عن قتادة أن عليا كرم الله وجهه قال : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم : ( ونزعنا ما في صدورهم من غل ) . وعنه أنها نزلت في أهل بدر ، أي وإن كان معناها عاما مطلقا .

                          ( وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) وقرأ ابن عامر " ما كنا " بغير واو على أنه بيان لما قبله ، وهذا من المخالف لرسم المصاحف . أي ويقولون شاكرين لله بألسنتهم المعبرة عن غبطتهم وبهجتهم : الحمد لله الذي هدانا في الدنيا للإيمان الصحيح والعمل الصالح الذي كان هذا النعيم جزاءه - فأدخل اللام على المسبب للعلم بالسبب - وما كنا لنهتدي ، أي وما كان من شأننا ولا مقتضى بديهتنا أو فكرتنا أن نهتدي إليه بأنفسنا لولا أن هدانا الله إليه بتوفيقه إيانا لاتباع رسله ومعونته لنا عليها ورحمته الخاصة .

                          علاوة على هداية فطرته التي فطرنا عليها ، وهداية ماخلق لنا من المشاعر والعقل ، تالله ( لقد جاءت رسل ربنا بالحق ) فهذا مصداق ما وعدنا من الجزاء على التوحيد والعمل الصالح ( ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ) أي ونودوا من قبل الرب تبارك وتعالى بأن قيل لهم : تلكم هي الجنة البعيدة المنال - لولا فضل ذي الجلال ، والإكرام - التي وعد بوراثتها الأتقياء ، أورثتموها بسبب ما كنتم تعملون في الدنيا من الصالحات ، فعلامة البعد في اسم الإشارة للبعد المعنوي الذي بيناه ، إذ السياق دال على أن هذا النداء يكون بعد دخولها ، والتبوء من غرف قصورها ، وجعله بعض المفسرين حسيا على القول بأن النداء يكون عند ما يرونها منصرفين إليها من الموقف ، وبعضهم زمنيا مرادا به الجنة الموصوفة على ألسنة الرسل في الدنيا ، وقد بعد عهد ذكرها ، والوعد بها ، وهو وجيه .

                          تكرر في القرآن التعبير عن نيل أهل الجنة للجنة بالإرث ، والأصل في الإرث أن يكون انتقالا للشيء من حائز إلى آخر ، كانتقال مال الميت إلى وارثه وانتقال الممالك من أمة إلى أخرى ، وكذا إرث للعلم والكتاب قال تعالى : ( وورث سليمان داود ) ( 27 : 16 ) وقال : ( ورثوا الكتاب ) ( 7 : 169 ) وقال : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) ( 35 : 32 ) [ ص: 376 ] ولا يظهر شيء من هذا في الجنة ، وإنما يخرج إيراثها هنا وما في معناه وإرثها في قوله : ( أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس ) ( 11 ، 10 :23 ) على وجهين : ( أحدهما ) أنهم يعبرون بالإرث عن الملك الذي لا منازع فيه . ( وثانيهما ) ما ورد من أن الله تعالى جعل لكل أحد من المكلفين في الجنة هو حقه إذا طلبه بسببه وسعى إليه في صراطه المستقيم ، وهو الإيمان والإسلام لله رب العالمين ، وهو ما وعد به جميع أفراد أمة الدعوة على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام وورثتهم الناشرين لدعوتهم بالعلم والعمل ، فمن كفر خسر مكانه من الجنة وأعطيه أهل الإيمان والتقوى ، فما من أحد منهم إلا وله حظ من الإرث . والاستعمالان مجازيان ، وهما متفقان لا متباينان .

                          أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن السدي في تفسير الآية قال : ليس من مؤمن ولا كافر إلا وله في الجنة منزل مبين ، فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ودخلوا منازلهم ، رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل : هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله ، ثم يقال : يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون ، فيقتسم أهل الجنة منازلهم . وروي نحوه عن ابن شوذب في تفسير : ( تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا ) ( 19 : 63 ) وروي مثله موقوفا ومرفوعا في تفسير : ( أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس ) أخرج سعيد بن منصور ، وابن ماجه ، ورواة التفسير المأثور الأربعة - أبناء جرير والمنذر وأبي حاتم ومردويه - والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما منكم من أحد إلا وله منزلان في الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله " فذلك قوله : ( أولئك هم الوارثون ) .

                          والآيات صريحة في كون الجنة تنال بالعمل ، وفي معناها آيات كثيرة بباء السببية ، بعضها بلفظ الإرث وبعضها بلفظ الدخول . وأما حديث أبي هريرة في الصحيحين " لن يدخل أحدا عمله الجنة - قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال - ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة " : وله تتمة ، وروي بلفظ آخر - فمعناه : أن عمل الإنسان مهما يكن عظيما لا يستحق به الجنة لذاته لولا رحمة الله وفضله ، إذ جعل هذا الجزاء العظيم على هذا العمل القليل فدخول الجنة بالعمل دخول بفضل الله ورحمته ؛ ولذلك قال بعده : " فسددوا وقاربوا " أي لا تبالغوا ولا تغلوا في دينكم ولا تتكلفوا من العمل ما لا تطيقون . وقيل : معناه يدخلونها بفضله ويقتسمونها بأعمالهم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية