الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 377 ] ( ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ) بعد أن ذكر سبحانه النار وأهلها ، والجنة وأهلها ، بين لنا في هذه الآيات وما بعدها بعض ما يكون بين الفريقين - فريق الجنة وفريق السعير - من الحوار بعد استقرار كل منهما في داره ، وتمكنه في قراره ، وهي تدل على أن الدارين في عالم واحد ، أو أرض واحدة ، يفصل بينهما حجاب هو سور واحد لا يمنع من إشراف أهل الجنة وهم في عليين ؛ على أهل النار وهم في سجين من هاوية الجحيم ، فيخاطب بعضهم بعضا بما يزيد أهل الجنة عرفانا بقيمة نعمة الله عليهم ، ويزيد أهل النار حسرة على تفريطهم وشقاء على شقائهم ، ولا يقتضي هذا النوع من الاتصال القرب المعهود عندنا في الدنيا بين المتخاطبين ، وهو كون المسافة بينهما تقاس بالذراع أو الباع ، بل يجوز أن تكون بحيث تحدد بما عندنا من الأشهر أو الأيام ؛ لأن شأن الآخرة أن تغلب فيه الروحانية على المادة الجسدية ، فيمكن للإنسان أن يسمع من هو على بعد شاسع منه ويراه ، وقد كان هذا المعنى غريبا بعيدا عن المألوف عند أجدادنا الأولين ، ولا يكاد يوجد الآن في العالم المدني من يستبعده بعد اختراع البشر للآلات التي يتخاطبون بها من أبعاد ألوف الأميال ، إما بالإشارات الكاتبة كالتلغراف السلكي واللاسلكي ، أو بالكلام اللساني كالتليفون السلكي واللاسلكي ، وقد نبأتنا أخبار الاختراعات في الشمال بصنع آلة تجمع بين الرؤية والخطاب ، إن كان لما يتم صنعها فقد كاد . قال عز وجل : [ ص: 378 ] ( ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ) التعبير بالماضي عن المستقبل معهود في الأساليب العربية البليغة ، وأشهر نكته جعل المستقبل في تحقق وقوعه كالذي وقع بالفعل ، والمعنى : أن أصحاب الجنة سوف ينادون أصحاب النار حتى إذا ما وجهوا أبصارهم إليهم سألوهم سؤال تبجح وافتخار بحسن حالهم ، وتهكم وتذكير بما كان من جناية أهل النار على أنفسهم بتكذيب الرسل ، وتقرير لهم بصدق ما بلغوهم من وعد ربهم لمن آمن وأصلح بنعيم الجنة قائلين . قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا وها نحن أولاء فيه ، فهل وجدتم ما وعد ربكم من آمن به وبما جاءت به رسله حقا ؟ .

                          قالوا : ( وعدنا ربنا ) ولم يقولوا لأهل النار : ( وعدكم ربكم ) بل حذفوا المفعول - لأنه قد عرف حينئذ أن أهل الجنة محل لذلك الوعد بالجنة ، وأن أهل النار ليسوا محلا له ، فسألوهم عن الوعد المطلق كما وجه إلى الناس كافة في الدنيا على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام معلقا على الإيمان والتقوى والعمل الصالح في مثل قوله : ( مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار ) ( 13 : 35 ) إلخ . وقوله : ( مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن ) ( 47 : 15 ) إلخ . وقوله تعالى في حكاية دعاء الملائكة للذين تابوا واتبعوا سبيله : ( ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ) ( 40 : 8 ) وقوله : ( جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب ) ( 19 : 61 ) وهذا ظاهر على القول بأن الوعد خاص بما كان في الخير ، وكذا على القول بأنه يشمل الخير والشر وهو الصحيح . ولكن الوعيد خاص بالشر أو السوء ، والمعنى حينئذ : فهل وجدتم ما وعد ربكم من آمن به واتقاه ، وما وعد به من كفر به وعصاه حقا بدخولنا الجنة ودخولكم النار ؟ وهذا يوافق قاعدة حذف المعمول لإفادة العموم ، والجمهور على أنه لا يكاد يطلق الوعد في الشر غير متعلق بالموعود به صراحة ولا ضمنا ؛ لأنه إذا أطلق ينصرف إلى الخير ، وأما إذا قيد بتعلقه بالشر فيجوز أن تكون تسميته توعدا للتهكم أو للمشاكلة إذا كان في مقابلة وعد الخير أو للتغليب ، فالأول : كقوله تعالى : ( قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير ) ( 22 : 72 ) والثاني : كقوله تعالى : ( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا ) ( 2 : 268 ) على أن لوعد الشيطان هنا نكتة أخرى ، وهو أنه شر في صورة الخير على سبيل الخداع ، فإنه عبارة عن الوسوسة للمرء بترك الصدقة وعمل البر اتقاء للفقر بذهاب ماله ، وتظهر مقابلة المشاكلة في وعد الله للمنافقين والمؤمنين في سورة التوبة ( 9 : 68 و 72 ) والثالث : ( هذا ما وعد الرحمن ) ( 36 : 52 ) أشار إلى البعث . ولكن في التنزيل ما لا يظهر فيه شيء من الثلاثة ، كقوله في وعيد قوم صالح : ( ذلك وعد غير مكذوب ) ( 11 : 65 ) وله نظائر ، على أن المتكلمين [ ص: 379 ] قد صرحوا بجواز تخلف الوعيد وعدم جواز تخلف الوعد بناء على أن العرب تتمدح بذلك ، والعقلاء يعدونه فضلا ، وكيف يقبل هذا مع قول الله تعالى في الوعيد : ( ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده ) ( 22 : 47 ) وما في معناه من الآيات . نعم قد يصح قولهم في الوعيد المقيد ولو في نصوص أخرى بجواز العفو عنه كبعض المعاصي ، دون المؤكد أو المطلق الذي لا يقيده شيء .

                          وذهب بعض المفسرين إلى أن الوعد هنا بمعنى الوعيد ولو للمشاكلة ، وأن المفعول حذف تخفيفا للإيجاز أو للعلم به مما قبله ، والمعنى : فهل وجدتم ما أوعدكم ربكم من الخزي والهوان والعذاب حقا ؟ وقيل : بل المعنى فهل وجدتم ما وعدنا ربنا حقا ؟ وهذا ضعيف جدا ، وما قبله قد رواه ابن جرير وغيره عن ابن عباس و ( أن ) في قوله : ( أن قد وجدنا ) هي المفسرة .

                          ( قالوا نعم ) أي قال أهل النار : نعم قد وجدنا ما وعد ربنا حقا . قرأ الكسائي نعم بكسر العين ، وهي لغة فصيحة نسبت إلى كنانة وهذيل ( فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين ) التأذين رفع الصوت بالإعلام بالشيء ، واللعنة عبارة عن الطرد والإبعاد مع الخزي والإهانة . أي فكان عقب هذا السؤال والجواب الذي قامت به الحجة على الكافرين أن أذن مؤذن قائلا : لعنة الله على الظالمين لأنفسهم ، الجانين عليها بما أوجب حرمانها من النعيم المقيم ، وارتكاسها في عذاب الجحيم ، والظالمين للناس بما يصفهم به في الآية التالية ، ونكر المؤذن لأن معرفته غير مقصودة ، بل المقصود الإعلام بما يقوله هنالك للتخويف منه هنا ، ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء ، وهو من أمور الغيب التي لا تعلم علما صحيحا إلا بالتوقيف المستند إلى الوحي . ولكن المعهود في أمور عالم الغيب ولا سيما الآخرة أن يتولى مثل ذلك فيها ملائكة الله عز وجل .

                          قال الآلوسي : هو على ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه صاحب الصور عليه السلام ، وقيل : مالك خازن النار ، وقيل : ملك من الملائكة غيرهما يأمره الله بذلك . ورواية الإمامية عن الرضا وابن عباس أنه علي كرم الله وجهه مما لم يثبت من طريق أهل السنة ، وبعيد عن هذا الإمام أن يكون مؤذنا وهو إذ ذاك في حظائر القدس اهـ . وأقول : إن واضعي كتب الجرح والتعديل لرواة الآثار لم يضعوها على قواعد المذاهب وقد كان في أئمتهم من يعد من شيعة علي وآله كعبد الرزاق والحاكم ، وما منهم أحد إلا وقد عدل كثيرا من الشيعة في روايتهم ، فإذا ثبتت هذه الرواية بسند صحيح قبلناها ، ولا نرى كونه في حظائر القدس مانعا منها ، ولو كنا نعقل لإسناد هذا التأذين إليه كرم الله وجهه معنى يعد به فضيلة أو مثوبة عند الله تعالى لقبلنا الرواية بما دون السند الصحيح ، ما لم يكن موضوعا [ ص: 380 ] أو معارضا برواية أقوى سندا أو أصح متنا . قرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي ( أن لعنة الله ) بفتح الهمزة وتشديد النون ونصب لعنة ، وقرأ الأعمش بكسر الهمزة على تقدير القول ، والباقون بفتح الهمزة وتخفيف النون على أنها المفسرة ، أو المخففة من الثقيلة ورفع لعنة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية