الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( فإذا أحصن )

قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .

فقرأه بعضهم : " فإذا أحصن " بفتح " الألف " بمعنى : إذا أسلمن ، فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالإسلام .

وقرأه آخرون : ( فإذا أحصن ) بمعنى : فإذا تزوجن ، فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالأزواج .

[ ص: 196 ] قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي - أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في أمصار الإسلام ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب في قراءته الصواب .

فإن ظن ظان أن ما قلنا في ذلك غير جائز ، إذ كانتا مختلفتي المعنى ، وإنما تجوز القراءة بالوجهين فيما اتفقت عليه المعاني - فقد أغفل

وذلك أن معنيي ذلك وإن اختلفا ، فغير دافع أحدهما صاحبه . لأن الله قد أوجب على الأمة ذات الإسلام وغير ذات الإسلام على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - - الحد .

9084 - فقال - صلى الله عليه وسلم - : " إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ، كتاب الله ، ولا يثرب عليها . ثم إن عادت فليضربها ، كتاب الله ، ولا يثرب عليها . ثم إن عادت فليضربها ، كتاب الله ، ولا يثرب عليها . ثم إن زنت الرابعة فليضربها ، كتاب الله ، وليبعها ولو بحبل من شعر " .

[ ص: 197 ] 9085 - وقال - صلى الله عليه وسلم - : " أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم " .

فلم يخصص بذلك ذات زوج منهن ولا غير ذات زوج . فالحدود واجبة على موالي الإماء إقامتها عليهن ، إذا فجرن ، بكتاب الله وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

فإن قال قائل : فما أنت قائل فيما حدثكم به :

9086 - ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا مالك بن أنس ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أبي هريرة وزيد بن خالد : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الأمة تزني ولم تحصن . قال : اجلدها ، فإن زنت فاجلدها ، فإن زنت فاجلدها ، فإن زنت - فقال في الثالثة أو الرابعة : - فبعها ولو بضفير و " الضفير " : الشعر .

9087 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن عيينة ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أبي هريرة وزيد بن خالد : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل . فذكر نحوه .

فقد بين أن الحد الذي وجب إقامته بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإماء - هو ما كان قبل إحصانهن . فأما ما وجب من ذلك عليهن بالكتاب فبعد إحصانهن ؟

قيل له : قد بينا أن أحد معاني " الإحصان " الإسلام ، وأن الآخر منه [ ص: 198 ] - التزويج ، وأن " الإحصان " كلمة تشتمل على معان شتى . وليس في رواية من روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل " عن الأمة تزني قبل أن تحصن " - بيان أن التي سئل عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - هي التي تزني قبل التزويج ، فيكون ذلك حجة لمحتج : في أن " الإحصان " الذي سن - صلى الله عليه وسلم - حد الإماء في الزنا - هو الإسلام دون التزويج ، ولا أنه هو التزويج دون الإسلام .

وإذ كان لا بيان في ذلك ، فالصواب من القول : أن كل مملوكة زنت فواجب على مولاها إقامة الحد عليها ، متزوجة كانت أو غير متزوجة ، لظاهر كتاب الله ، والثابت من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من أخرجه من وجوب الحد عليه منهن بما يجب التسليم له .

وإذ كان ذلك كذلك ، تبين به صحة ما اخترنا من القراءة في قوله : " فإذا أحصن " .

قال أبو جعفر : فإن ظن ظان أن في قول الله تعالى ذكره : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات - دلالة على أن قوله : فإذا أحصن ، معناه : تزوجن ، إذ كان ذكر ذلك بعد وصفهن بالإيمان بقوله : من فتياتكم المؤمنات - وحسب أن ذلك لا يحتمل معنى غير معنى التزويج ، مع ما تقدم ذلك من وصفهن بالإيمان فقد ظن خطأ .

وذلك أنه غير مستحيل في الكلام أن يكون معنى ذلك : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ، [ ص: 199 ] فإذا هن آمن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ، فيكون الخبر مبتدأ عما يجب عليهن من الحد إذا أتين بفاحشة بعد إيمانهن ، بعد البيان عما لا يجوز لناكحهن من المؤمنين من نكاحهن ، وعمن يجوز نكاحه له منهن .

فإذ كان ذلك غير مستحيل في الكلام ، فغير جائز لأحد صرف معناه إلى أنه التزويج دون الإسلام ، من أجل ما تقدم من وصف الله إياهن بالإيمان .

غير أن الذي نختار لمن قرأ : ( محصنات غير مسافحات ) بفتح " الصاد " في هذا الموضع ، أن يقرأ : ( فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة ) بضم " الألف " .

ولمن قرأ : " محصنات " بكسر " الصاد " فيه ، أن يقرأ : " فإذا أحصن " بفتح " الألف " لتأتلف قراءة القارئ على معنى واحد وسياق واحد ، لقرب قوله : " محصنات " من قوله : " فإذا أحصن " . ولو خالف من ذلك ، لم يكن لحنا ، غير أن وجه القراءة ما وصفت .

وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، نظير اختلاف القرأة في قراءته . فقال بعضهم : معنى قوله : فإذا أحصن ، فإذا أسلمن .

ذكر من قال ذلك :

9088 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال : حدثنا بشر بن المفضل ، عن سعيد ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم : أن ابن مسعود قال : إسلامها إحصانها .

[ ص: 200 ] 9089 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني جرير بن حازم : أن سليمان بن مهران حدثه ، عن إبراهيم بن يزيد ، عن همام بن الحارث : أن النعمان بن عبد الله بن مقرن ، سأل عبد الله بن مسعود فقال : أمتي زنت ؟ فقال : اجلدها خمسين جلدة . قال : إنها لم تحصن ! فقال ابن مسعود : إحصانها إسلامها .

9090 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم : أن النعمان بن مقرن سأل ابن مسعود عن أمة زنت وليس لها زوج ، فقال : إسلامها إحصانها .

9091 - حدثني ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن حماد ، عن إبراهيم : أن النعمان قال : قلت لابن مسعود : أمتي زنت ؟ قال : اجلدها . قلت : فإنها لم تحصن ! قال : إحصانها إسلامها .

9092 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : كان عبد الله يقول : إحصانها إسلامها .

9093 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي أنه تلا هذه الآية : فإذا أحصن قال : يقول : إذا أسلمن .

9094 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال : حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن [ ص: 201 ] أشعث ، عن الشعبي قال : قال عبد الله : الأمة إحصانها إسلامها .

9095 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال مغيرة : أخبرنا عن إبراهيم أنه كان يقول : فإذا أحصن ، يقول : إذا أسلمن .

9096 - حدثنا أبو هشام قال : حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن أشعث ، عن الشعبي قال : الإحصان الإسلام .

9097 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن برد بن سنان ، عن الزهري قال : جلد عمر رضي الله عنه ولائد أبكارا من ولائد الإمارة في الزنا .

9098 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فإذا أحصن ، يقول : إذا أسلمن .

9099 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن سالم والقاسم قالا : إحصانها إسلامها وعفافها في قوله : فإذا أحصن .

وقال آخرون : معنى قوله : فإذا أحصن ، فإذا تزوجن .

ذكر من قال ذلك :

9100 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : فإذا أحصن ، يعني : إذا تزوجن حرا .

9101 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا هشيم قال : [ ص: 202 ] أخبرنا حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ : ( فإذا أحصن ) . يقول : إذا تزوجن .

9102 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عكرمة : أن ابن عباس كان يقرأ : فإذا أحصن ، يقول : تزوجن .

9103 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن إدريس قال : سمعت ليثا ، عن مجاهد قال : إحصان الأمة أن ينكحها الحر ، وإحصان العبد أن ينكح الحرة .

9104 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة : أنه سمع سعيد بن جبير يقول : لا تضرب الأمة إذا زنت ، ما لم تتزوج .

9105 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : عن الحسن في قوله : فإذا أحصن . قال : أحصنتهن البعولة .

9106 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فإذا أحصن ، قال : أحصنتهن البعولة .

9107 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني عياض بن عبد الله ، عن أبي الزناد : أن الشعبي أخبره ، أن ابن عباس أخبره : أنه أصاب جارية له قد كانت زنت ، وقال : أحصنتها .

قال أبو جعفر وهذا التأويل على قراءة من قرأ : ( فإذا أحصن ) بضم " الألف " وعلى تأويل من قرأ : " فإذا أحصن " بفتحها . وقد بينا الصواب من القول والقراءة في ذلك عندنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية