الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " فلولا كانت قرية آمنت " أي : أهل قرية . وفي " لولا " قولان : أحدهما : أنه بمعنى : لم تكن قرية آمنت " فنفعها إيمانها " أي : قبل منها " إلا قوم يونس " ، قاله ابن عباس . وقال قتادة : لم يكن هذا لأمة آمنت عند نزول العذاب ، إلا لقوم يونس . والثاني : أنها بمعنى فهلا ، قاله أبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والزجاج . قال الزجاج : والمعنى : فهلا كانت قرية آمنت في وقت نفعها إيمانها ، إلا قوم يونس ؟ و " إلا " هاهنا استثناء ليس من الأول ، كأنه قال : لكن قوم يونس . قال الفراء : نصب القوم على الانقطاع مما قبله ، ألا ترى أن [ ص: 65 ] " ما " بعد " إلا " في الجحد يتبع ما قبلها ؟ تقول : ما قام أحد إلا أخوك ، فإذا قلت : ما فيها أحد إلا كلبا أو حمارا ، نصبت ، لانقطاعهم من الجنس ، كذلك كان قوم يونس منقطعين من غيرهم من أمم الأنبياء ، ولو كان الاستثناء وقع على طائفة منهم لكان رفعا . وذكر ابن الأنباري في قوله : " إلا " قولين آخرين : أحدهما : أنها بمعنى الواو ، والمعنى : وقوم يونس لما آمنوا فعلنا بهم كذا وكذا ، وهذا مروي عن أبي عبيدة ، والفراء ينكره . والثاني : أن الاستثناء من الآية التي قبل هذه ، تقديره : حتى يروا العذاب الأليم إلا قوم يونس ، فالاستثناء على هذا متصل غير منقطع .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " كشفنا عنهم " أي : صرفنا عنهم " عذاب الخزي " أي : عذاب الهوان والذل " ومتعناهم إلى حين " أي : إلى حين آجالهم .

                                                                                                                                                                                                                                      الإشارة إلى شرح قصتهم

                                                                                                                                                                                                                                      ذكر أهل العلم بالسير والتفسير أن قوم يونس كانوا بـ " نينوى " من أرض الموصل ، فأرسل الله عز وجل إليهم يونس يدعوهم إلى الله ويأمرهم بترك الأصنام ، فأبوا ، فأخبرهم أن العذاب مصبحهم بعد ثلاث ، فلما تغشاهم العذاب ، قال ابن عباس ، وأنس : لم يبق بين العذاب وبينهم إلا قدر ثلثي ميل ، وقال مقاتل : قدر ميل ، وقال أبو صالح عن ابن عباس : وجدوا حر العذاب على أكتافهم ، وقال سعيد بن جبير : غشيهم العذاب كما يغشى الثوب القبر ، وقال بعضهم : غامت السماء غيما أسود يظهر دخانا شديدا ، فغشي مدينتهم ، واسودت سطوحهم ، [ ص: 66 ] فلما أيقنوا بالهلاك لبسوا المسوح ، وحثوا على رؤوسهم الرماد ، وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام ، وعجوا إلى الله بالتوبة الصادقة ، وقالوا : آمنا بما جاء به يونس ، فاستجاب الله منهم . قال ابن مسعود : بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم بينهم ، حتى إن كان الرجل ليأتي إلى الحجر قد وضع عليه أساس بنيانه فيقلعه ، فيرده . وقال أبو الجلد : لما غشيهم العذاب ، مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم ، فقالوا : ما ترى ؟ قال : قولوا : يا حي حين لا حي ، يا حي محيي الموتى ، يا حي لا إله إلا أنت ، فقالوها ، فكشف العذاب عنهم . قال مقاتل : عجوا إلى الله أربعين ليلة ، فكشف العذاب عنهم . وكانت التوبة عليهم في يوم عاشوراء يوم الجمعة . قال : وكان يونس قد خرج من بين أظهرهم ، فقيل له ارجع إليهم ، فقال : كيف أرجع إليهم فيجدوني كاذبا ؟ وكان من يكذب بينهم ولا بينة له يقتل ، فانصرف مغاضبا ، فالتقمه الحوت . وقال أبو صالح عن ابن عباس : أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له : شعيا ، فقيل له : ائت فلانا الملك ، فقل له يبعث إلى بني إسرائيل نبيا قويا أمينا ، وكان في مملكته خمسة من الأنبياء ، فقال الملك ليونس : اذهب إليهم ، فقال : ابعث غيري ، فعزم عليه أن يذهب ، فأتى بحر الروم ، فركب سفينة ، فالتقمه الحوت ، فلما خرج من بطنها أمر أن ينطلق إلى قومه ، فانطلق نذيرا لهم ، فأبوا عليه ، فوعدهم بالعذاب ، وخرج ، فلما تابوا رفع عنهم . والقول الأول أثبت عند العلماء ، وأنه إنما التقمه الحوت بعد إنذاره لهم وتوبتهم . وسيأتي شرح قصته في التقام الحوت إياه في مكانه إن شاء الله تعالى [الصافات :143] .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل : كيف كشف العذاب عن قوم يونس بعد إتيانه إليهم ، ولم يكشف عن فرعون حين آمن ؟

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 67 ] فعنه ثلاثة أجوبة . أحدها : أن ذلك كان خاصا لهم كما ذكرنا في أول الآية . والثاني : أن فرعون باشره العذاب ، وهؤلاء دنا منهم ولم يباشرهم ، فكانوا كالمريض يخاف الموت ويرجو العافية ، فأما الذي يعاين ، فلا توبة له ، ذكره الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : أن الله تعالى علم منهم صدق النيات ، بخلاف من تقدمهم من الهالكين ، ذكره ابن الأنباري .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية