الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          بعد أن بين سبحانه أخلاق الأعراب أخذ الحكم العدل اللطيف الخبير يبين أهل الشر منهم، وأهل الخير فقال تعالى:

                                                          ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم

                                                          إن الأعراب الذين هم أشد كفرا ونفاقا يرون المسلمين لهم القوة والسيطرة فما يدفعونه من زكاة يقدمونها على أنها مغرم، أي: مال وجب عليهم أداؤه، ولأنهم لا يؤمنون بالله ورسوله ولا اليوم الآخر يعدونه مغرما - والمغرم: الغرم أو الغرامة، والغرامة هي المال الذي يدفع في غير مقابل، ولأنهم لا يؤمنون ولا يرجون خيرا في عطائهم، وأصل الغرام الشيء الملازم، وأطلق على المدين الغارم، لأنه ملازم دائما من الدائن ولذا قال تعالى: إن عذابها كان غراما

                                                          فهؤلاء الأعراب لا علاقة لهم بالمجتمع، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، يعدون ما ينفق من زكاة مفروضة غرامة، وينتظرون أن ينخلعوا من هذا المال المفروض عليهم، ولا يؤمنون بوجوبه عليهم; لأنهم لا دين لهم وقال: ويتربص بكم الدوائر أي: ينتظر ذلك الفريق من الأعراب أن تنزل بكم النكبات، " والدوائر " وهي جمع دائرة، والدائرة النائبة وهي في أصلها مصدر كالعافية، وقد تكون اسم فاعل من دار يدور، أي: نكبة دائرة، وتتعاقب على الناس، أي: أن أولئك المنافقين غير المؤمنين من الأعراب ينتظرون أن تنال المؤمنين دائرة تذهب بقوتهم، فيتحللون من تلك النفقات المفروضة، وقد انتظروا حتى توفي الرسول - صلى الله عليه وسلم - فحسبوها فرصة فارتدوا، ثم لما زادت الشدة من أهل الإيمان عليهم رضوا بالصلاة، وامتنعوا عن الزكاة، حتى دفعوها صاغرين بسيف الله الذي رفعه الصديق رضي الله تعالى عنه. [ ص: 3424 ]

                                                          ويقول سبحانه: عليهم دائرة السوء أي: أنه ينزل عليهم نكبة السوء، وهنا في السوء قراءتان، إحداهما بضم السين ، وهي المصدر بمعنى ما يسوءهم، فالدائرة نازلة ومقبلة، ولكنها ليست على المؤمنين بل على المنافقين من الأعراب، ولذلك هزمهم الصديق وخضد شوكتهم، وتقرأ السين في القراءة الثانية بالفتح ، والسوء: الضرر والفساد، وكل قراءة من القراءتين قرآن متواتر.

                                                          وبجمعها يكون المعنى أنه يصيبهم نكبة تفجعهم وتسوءهم، وعاقبته مضرة شديدة عليهم أن يشرد جمعهم ويتفرق أمرهم وتسبى نساؤهم ثم يعتقن، وأن يقتل رجالهم وينهزموا.

                                                          ثم ختم الله تعالى الآية ببيان أن ما ينوون وما يتربصونه يعلمه الله تعالى ويدبر الأمور على غير ما يريدون، بل على ما يريد الحق جل جلاله، ولذا قال تعالى: والله سميع عليم صدر الجملة السامية بلفظ الجلالة، لتربية المهابة في نفوس القارئين والمستمعين، وملء القلوب برقابة الله تعالى، لأنه سميع يسمع ما تحدث به النفوس، وما تهمس به الأفئدة عليم بكل شيء، يدبر الأمر على مقتضى علمه، وقد أحاط بكل شيء علما.

                                                          وأن الله يعلمنا الإنصاف في الأقوال والأفعال، ولله المثل الأعلى، فيذكر تعالت كلماته بجوار المنافقين من الأعراب الأبرار فيقول عز من قائل:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية