الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم )

قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - " يا أيها الذين آمنوا " : صدقوا الله ورسوله لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، يقول : لا يأكل بعضكم أموال بعض بما حرم عليه ، من الربا والقمار وغير ذلك من الأمور التي نهاكم الله عنها إلا أن تكون تجارة . كما :

9140 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا [ ص: 217 ] أسباط ، عن السدي : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ، أما " أكلهم أموالهم بينهم بالباطل " فبالربا والقمار والبخس والظلم إلا أن تكون تجارة ، ليربح في الدرهم ألفا إن استطاع .

9141 - حدثني محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن الفضل أبو النعمان قال : حدثنا خالد الطحان ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، قال : الرجل يشتري السلعة فيردها ويرد معها درهما .

9142 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول : " إن رضيته أخذته وإلا رددته ورددت معه درهما " قال : هو الذي قال الله : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل .

وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية بالنهي عن أن يأكل بعضهم طعام بعض إلا بشراء . فأما قرى ، فإنه كان محظورا بهذه الآية ، حتى نسخ ذلك بقوله في " سورة النور " : ( ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ) الآية [ سورة النور : 61 ] .

[ ص: 218 ] ذكر من قال ذلك :

9143 - حدثني محمد بن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسن بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري قالا : في قوله : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم الآية ، فكان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية ، فنسخ ذلك بالآية التي في " سورة النور " فقال : ( ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم ) إلى قوله : ( جميعا أو أشتاتا ) فكان الرجل الغني يدعو الرجل من أهله إلى الطعام ، فيقول : " إني لأتجنح " ! و " التجنح " التحرج ويقول : " المساكين أحق به مني " ! فأحل من ذلك أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، وأحل طعام أهل الكتاب .

قال أبو جعفر : وأولى هذين القولين بالصواب في ذلك ، قول السدي . وذلك أن الله تعالى ذكره حرم أكل أموالنا بيننا بالباطل ، ولا خلاف بين المسلمين أن أكل ذلك حرام علينا ، فإن الله لم يحل قط أكل الأموال بالباطل .

وإذ كان ذلك كذلك ، فلا معنى لقول من قال : " كان ذلك نهيا عن [ ص: 219 ] أكل الرجل طعام أخيه قرى على وجه ما أذن له ، ثم نسخ ذلك ، لنقل علماء الأمة جميعا وجهالها : أن قرى الضيف وإطعام الطعام كان من حميد أفعال أهل الشرك والإسلام التي حمد الله أهلها عليها وندبهم إليها ، وأن الله لم يحرم ذلك في عصر من العصور ، بل ندب الله عباده وحثهم عليه .

وإذ كان ذلك كذلك ، فهو من معنى الأكل بالباطل خارج ، ومن أن يكون ناسخا أو منسوخا بمعزل ؛ لأن النسخ إنما يكون لمنسوخ ، ولم يثبت النهي عنه ، فيجوز أن يكون منسوخا بالإباحة .

وإذ كان ذلك كذلك ، صح القول الذي قلناه : من أن الباطل الذي نهى الله عن أكل الأموال به ، هو ما وصفنا مما حرمه على عباده في تنزيله أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - - وشذ ما خالفه .

واختلفت القرأة في قراءة قوله : إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم .

فقرأها بعضهم : " إلا أن تكون تجارة " رفعا ، بمعنى : إلا أن توجد تجارة ، أو : تقع تجارة ، عن تراض منكم ، فيحل لكم أكلها حينئذ بذلك المعنى .

ومذهب من قرأ ذلك على هذا الوجه : " إلا أن تكون " تامة هاهنا - لا حاجة بها إلى خبر ، على ما وصفت . وبهذه القراءة قرأ أكثر أهل الحجاز وأهل البصرة .

وقرأ ذلك آخرون ، وهم عامة قرأة الكوفيين : ( إلا أن تكون تجارة ) ، نصبا ، بمعنى : إلا أن تكون الأموال التي تأكلونها بينكم تجارة عن تراض [ ص: 220 ] منكم ، فيحل لكم هنالك أكلها . فتكون " الأموال " مضمرة في قوله : إلا أن تكون ، و " التجارة " منصوبة على الخبر .

قال أبو جعفر : وكلتا القراءتين عندنا صواب جائزة القراءة بهما ، لاستفاضتهما في قرأة الأمصار ، مع تقارب معانيهما . غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فإن قراءة ذلك بالنصب - أعجب إلي من قراءته بالرفع ؛ لقوة النصب من وجهين :

أحدهما : أن في " تكون " ذكرا من الأموال . والآخر : أنه لو لم يجعل فيها ذكرا منها ، ثم أفردت ب " التجارة " وهي نكرة ، كان فصيحا في كلام العرب النصب ، إذ كانت مبنية على اسم وخبر . فإذا لم يظهر معها إلا نكرة واحدة ، نصبوا ورفعوا ، كما قال الشاعر :


إذا كان طعنا بينهم وعناقا

قال أبو جعفر : ففي هذه الآية إبانة من الله تعالى ذكره عن تكذيب قول الجهلة من المتصوفة المنكرين طلب الأقوات بالتجارات والصناعات ، والله تعالى يقول : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ، اكتسابا منا ذلك بها ، كما :

9144 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن [ ص: 221 ] قتادة قوله : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ، قال : التجارة رزق من رزق الله ، وحلال من حلال الله ، لمن طلبها بصدقها وبرها . وقد كنا نحدث : أن التاجر الأمين الصدوق مع السبعة في ظل العرش يوم القيامة .

وأما قوله : " عن تراض " فإن معناه كما :

9145 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى : عن تراض منكم ، في تجارة أو بيع ، أو عطاء يعطيه أحد أحدا .

9146 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : عن تراض منكم في تجارة ، أو بيع ، أو عطاء يعطيه أحد أحدا .

9147 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن القاسم ، عن سليمان الجعفي ، عن أبيه ، عن ميمون بن مهران قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : البيع عن تراض ، والخيار بعد الصفقة ، ولا يحل لمسلم أن يغش مسلما .

[ ص: 222 ] 9148 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج . قال : قلت لعطاء : المماسحة ، بيع هي ؟ قال : لا حتى يخيره التخيير بعد ما يجب البيع ، إن شاء أخذ ، وإن شاء ترك .

واختلف أهل العلم في معنى " التراضي " في التجارة . فقال بعضهم : هو أن يخير كل واحد من المتبايعين بعد عقدهما البيع بينهما فيما تبايعا فيه ، من إمضاء البيع أو نقضه ، أو يتفرقا عن مجلسهما الذي تواجبا فيه البيع بأبدانهما ، عن تراض منهما بالعقد الذي تعاقداه بينهما قبل التفاسخ .

ذكر من قال ذلك :

9149 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا معاذ بن هشام قال : حدثني أبي ، عن قتادة ، عن محمد بن سيرين ، عن شريح قال : اختصم رجلان باع أحدهما من الآخر برنسا ، فقال : إني بعت من هذا برنسا ، فاسترضيته فلم يرضني ! ! فقال : أرضه كما أرضاك . قال : إني قد أعطيته دراهم ولم يرض ! قال : أرضه كما أرضاك . قال : قد أرضيته فلم يرض ! فقال : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا .

9150 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن أبي السفر ، عن الشعبي ، عن شريح قال : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا .

9151 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن شريح مثله .

[ ص: 223 ] 9152 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد قال : حدثنا شعبة ، عن جابر قال : حدثني أبو الضحى ، عن شريح أنه قال : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا قال قال أبو الضحى : كان شريح يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنحوه .

9153 - وحدثني الحسين بن يزيد الطحان قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، عن عبد السلام ، عن رجل ، عن أبي حوشب ، عن ميمون قال : اشتريت من ابن سيرين سابريا ، فسام علي سومه ، فقلت : أحسن ! فقال : إما أن تأخذ وإما أن تدع . فأخذت منه ، فلما وزنت الثمن وضع الدراهم فقال : اختر ، إما الدراهم ، وإما المتاع . فاخترت المتاع فأخذته .

9154 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا هشيم ، عن إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي أنه كان يقول في البيعين : إنهما بالخيار ما لم يتفرقا ، فإذا تصادرا فقد وجب البيع .

9155 - حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي قال : حدثنا محمد بن عبيد قال : حدثنا سفيان بن دينار ، عن ظبية قال : كنت في السوق وعلي رضي الله عنه في السوق ، فجاءت جارية إلى بيع فاكهة بدرهم ، فقالت : أعطني هذا . فأعطاها إياه ، فقالت : لا أريده ، أعطني درهمي ! فأبى ، فأخذه منه علي فأعطاها إياه .

[ ص: 224 ] 9156 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي : أنه أتي في رجل اشترى من رجل برذونا ووجب له ، ثم إن المبتاع رده قبل أن يتفرقا ، فقضى أنه قد وجب عليه ، فشهد عنده أبو الضحى : أن شريحا قضى في مثله أن يرده على صاحبه . فرجع الشعبي إلى قضاء شريح .

9157 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : حدثنا هشام ، عن ابن سيرين ، عن شريح ، أنه كان يقول في البيعين : إذا ادعى المشتري ، أنه قد أوجب له البيع ، وقال البائع : لم أوجب له ، قال : شاهدان عدلان أنكما افترقتما عن تراض بعد بيع أو تخاير ، وإلا فيمين البائع : أنكما ما افترقتما عن بيع ولا تخاير .

9158 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد . قال : كان شريح يقول : شاهدان ذوا عدل أنكما افترقتما عن تراض بعد بيع وتخاير ، وإلا فيمينه بالله : ما تفرقتما عن تراض بعد بيع أو تخاير .

9159 - حدثنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا ابن عون ، عن محمد بن سيرين ، عن شريح أنه كان يقول : شاهدان ذوا عدل أنهما تفرقا عن تراض بعد بيع أو تخاير .

وعلة من قال هذه المقالة ، ما :

9160 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله قال : أخبرني نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا ، إلا أن يكون خيارا .

[ ص: 225 ] 9161 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا مروان بن معاوية قال : حدثني يحيى بن أيوب قال : كان أبو زرعة إذا بايع رجلا يقول له : خيرني ! ثم يقول : قال أبو هريرة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يفترق اثنان إلا عن رضى " .

9162 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية قال : حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا أهل البقيع ! فسمعوا صوته ، ثم قال : يا أهل البقيع ! فاشرأبوا ينظرون ، حتى عرفوا أنه صوته ، ثم قال : يا أهل البقيع ! لا يتفرقن بيعان إلا عن رضى .

[ ص: 226 ] 9163 - حدثني أحمد بن محمد الطوسي قال : حدثنا أبو داود الطيالسي قال : حدثنا سليمان بن معاذ قال : حدثنا سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بايع رجلا ثم قال له : اختر . فقال : قد اخترت . فقال : هكذا البيع .

قالوا : فالتجارة عن تراض ، هو ما كان على ما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - من تخيير كل واحد من المشتري والبائع في إمضاء البيع فيما يتبايعانه بينهما أو نقضه بعد عقد البيع بينهما وقبل الافتراق أو ما تفرقا عنه بأبدانهما عن تراض منهما بعد مواجبة البيع فيه عن مجلسهما . فما كان بخلاف ذلك ، فليس من التجارة التي كانت بينهما عن تراض منهما .

وقال آخرون : بل التراضي في التجارة - تواجب عقد البيع فيما تبايعه المتبايعان بينهما عن رضى من كل واحد منهما ما ملك عليه صاحبه وملك صاحبه عليه ، افترقا عن مجلسهما ذلك أو لم يفترقا ، تخايرا في المجلس أو لم يتخايرا فيه بعد عقده .

وعلة من قال هذه المقالة : أن البيع إنما هو بالقول ، كما أن النكاح بالقول ، ولا خلاف بين أهل العلم في الإجبار في النكاح لأحد المتناكحين على صاحبه ، افترقا أو لم يفترقا عن مجلسهما الذي جرى ذلك فيه . قالوا : فكذلك حكم البيع . وتأولوا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " على أنه ما لم [ ص: 227 ] يتفرقا بالقول . وممن قال هذه المقالة مالك بن أنس ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد .

قال أبو جعفر : وأولى القولين بالصواب في ذلك عندنا ، قول من قال : إن التجارة التي هي عن تراض بين المتبايعين ، ما تفرق المتبايعان عن المجلس الذي تواجبا فيه بينهما عقدة البيع بأبدانهما ، عن تراض منهما بالعقد الذي جرى بينهما ، وعن تخيير كل واحد منهما صاحبه لصحة الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما :

9164 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية قال : أخبرنا أيوب وحدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا أيوب عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يكون بيع خيار " وربما قال : " أو يقول أحدهما للآخر اختر " .

فإذ كان ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحيحا ، فليس يخلو قول أحد المتبايعين لصاحبه : " اختر " من أن يكون قبل عقد البيع ، أو معه ، أو بعده .

[ ص: 228 ] فإن يكن قبله ، فذلك الخلف من الكلام الذي لا معنى له ، لأنه لم يملك قبل عقد البيع أحد المتبايعين على صاحبه ما لم يكن له مالكا ، فيكون لتخييره صاحبه فيما ملك عليه وجه مفهوم . ولا فيهما من يجهل أنه بالخيار في تمليك صاحبه ما هو له غير مالك بعوض يعتاضه منه ، فيقال له : " أنت بالخيار فيما تريد أن تحدثه من بيع أو شراء " .

أو يكون - إذ بطل هذا المعنى - تخيير كل واحد منهما صاحبه مع عقد البيع . ومعنى التخيير في تلك الحال نظير معنى التخيير قبلها ؛ لأنها حالة لم يزل فيها عن أحدهما ما كان مالكه قبل ذلك - إلى صاحبه ، فيكون للتخيير وجه مفهوم .

أو يكون ذلك بعد عقد البيع ، إذ فسد هذان المعنيان .

وإذ كان ذلك كذلك ، صح أن المعنى الآخر من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - أعني قوله : " ما لم يتفرقا " - إنما هو التفرق بعد عقد البيع ، كما كان التخيير بعده . وإذ صح ذلك ، فسد قول من زعم أن معنى ذلك إنما هو التفرق بالقول الذي به يكون البيع . وإذ فسد ذلك ، صح ما قلنا من أن التخيير والافتراق إنما هما معنيان بهما يكون تمام البيع بعد عقده ، وصح تأويل من قال : معنى قوله : إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم : إلا أن يكون أكلكم الأموال التي يأكلها بعضكم لبعض ، عن ملك منكم عمن ملكتموها عليه ، بتجارة تبايعتموها بينكم ، وافترقتم عنها عن تراض منكم بعد عقد البيع بينكم بأبدانكم ، أو تخيير بعضكم بعضا .

التالي السابق


الخدمات العلمية