الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وبعد أن ذكر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ذكر الذين تابوا واعترفوا بذنوبهم.

                                                          فقال تعالى: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم

                                                          هذا هو الصنف الثالث، وهم الذين تخلفوا في غزوة تبوك، فالقسم الأول من المهاجرين والأنصار ومن اتبعوهم بإحسان واقتدوا بهم، وإن لم يسبقوا سبقهم وهؤلاء ما تخلفوا عن غزوة غزاها النبي - صلى الله عليه وسلم -، والقسم الثاني المنافقون الذين تخلفوا وكانوا يتمنون الهزيمة للمؤمنين.

                                                          والقسم الأخير تخلفوا من غير معذرة، ولم يدنسوا ألسنتهم بكذبهم، وأحسوا بكبر ما فعلوا فاعترفوا بذنوبهم وأحسوا بوخز الإثم يحيك في صدورهم، وكبر أمرهم في أنفسهم عندما نزلت الآيات للمتخلفين، فجاء بعضهم وربطوا [ ص: 3433 ] أنفسهم على سواري المسجد وأقسموا ألا يحلوا أنفسهم إلا إذا حل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رباطهم، فلما جاء من سفره وإنه كان من سنته أنه إذا جاء من سفر صلى لله ركعتين، فلما رآهم أبي أن يحل وثاقهم حتى يجيء أمر الله بذلك، وقد نذروا أن يتصدقوا بأموالهم إن غفر الله لهم تخلفهم، فغفر الله تعالى لهم بهذه الآية التي فيها عسى الله أن يتوب عليهم

                                                          فلما تاب الله تعالى قدموا من أموالهم، وبعضهم قدم كل أمواله تكفيرا عما اجترح من سيئة التخلف وهو قادر، ويقول تعالى في شأنهم: خلطوا عملا صالحا وهو الجهاد السابق والإيمان، والإحساس بالذنب، والتوبة النصوح، والتصديق، والآخر السيئ; وهو التخلف في الجهاد الذي بعدت فيه الشقة، وهذا أمر سيئ; لأنه عصيان لأمر الله تعالى; ولأنه تخاذل في وقت الشدة; ولأنه إيثار للراحة على الجهاد.

                                                          وقوله: خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا أي: جمعوا بين الخير والشر، ولم يقل سبحانه وتعالى - ولكلامه المثل الأعلى - خلطوا بعمل صالح آخر سيئا من غير تمييز بين المخلوط والمخلوط به; لأنه ليس المقصود معرفة المخلوط من المخلوط به، إنما المقصود أنهم جمعوا بين الصالح والطالح، وقوله تعالى: عسى الله أن يتوب عليهم الرجاء ليس من الله إنما هو من العباد، يرجون أن يتوب الله عليهم أي: يرجع عليهم بقبول التوبة.

                                                          أو يقال إن الأمر ما دام قد اختلط الخير بالشر وكان الترجي فإن الأمر يرجى فيه قبول التوبة; لأن الحسنات يذهبن السيئات، ولأن الخير الغالب برحمة الله يذهب بالشر المغلوب، وأن غفران الله ورحمته يطلبان قبول التوبة حيث كان لها مسوغ، لأن الله تعالى يقبل التوبة من عباده، ولأنه غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب، وختم الله تعالى الآية بقوله: إن الله غفور رحيم في هذه الجملة [ ص: 3434 ] السامية تأكيد لمعنى الغفران وقبول التوبة رحمة بعباده، وذلك لأن الجملة السامية مؤكدة الغفران والرحمة بـ (إن) الدالة على التوكيد، وبالأوصاف للذات العلية غفور رحيم وبالجملة الاسمية.

                                                          وقد كان أولئك التائبون المعترفون بذنوبهم يقدمون أموالهم تكفيرا عن ذنوبهم، فأمر الله تعالى نبيه الأمين أن يأخذها فقال تعالى:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية