الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا

"إذ" هذه بدل من الأولى في قوله سبحانه: إذ جاءتكم ، وقوله: من فوقكم يريد أهل نجد مع عيينة بن حصن، ومن أسفل منكم يريد مكة وسائر تهامة، قاله مجاهد ، وقيل: من فوقكم أي: من أعلى الوادي من قبل مشرف غطفان، ومن أسفل منكم من أسفل الوادي منه قبل المغرب وقيل: إنما أراد ما يختص ببقعة المدينة، أي: نزلت طائفة في أعلى المدينة، وطائفة في أسفلها، وهذه عبارة عن الحصر.

و زاغت الأبصار معناه: مالت عن مواضعها، وذلك فعل الواله الفزع، وأدغم الأعمش "إذ زاغت"، وبين الذال الجمهور، وكل حسن.

وبلغت القلوب الحناجر عبارة عما يجده الهلع من ثوران نفسه وتفرقها شعاعا، ويجد كأن حشوته وقلبه يصعد علوا لينفصل، فليس بلوغ القلوب الحناجر حقيقة بالنقلة، بل [ ص: 97 ] يشير إلى ذلك، فيستعار لها بلوغ الحناجر، وروى أبو سعيد أن المؤمنين قالوا يوم الخندق: يا رسول الله، بلغت القلوب الحناجر، فهل من شيء نقوله؟ قال نعم، قولوا: "اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا"، فقالوها فضرب الله تعالى وجوه الكفار بالريح فهزمهم.

وقوله تعالى: وتظنون بالله الظنونا ، أي: تكادون تضطربون وتقولون: ما هذا الخلف للموعد؟ وهذه عبارة عن خواطر للمؤمنين لا يمكن للبشر دفعها، وأما المنافقون فجلحوا ونطقوا. وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والأعمش ، وطلحة : "الظنونا" بألف في الوصل والوقف، وذلك اتباع لخط المصحف، وعلته تعديل رؤوس الآي، وطرد هذه العلة أن يلازم الوقف. وقد روي عن أبي عمرو أنه كان لا يصل، فكان لا يوافق خط المصحف وقياس الفواصل، وقرأ أبو عمرو أيضا، وحمزة في الوصل والوقف: "الظنون" بغير ألف، وهذا هو الأصل، وقرأ ابن كثير ، والكسائي ، وعاصم ، وأبو عمرو بالألف في الوقف، وبحذفها في الوصل، وعللوا الوقف بتساوي رؤوس الآي، وبما يفعل العرب في القوافي من الزيادة والنقص.

وقوله تعالى: "هنالك" ظرف زمان، والعامل فيه "ابتلي"، ومن قال: إن العامل فيه "وتظنون" فليس قوله بالقوي; لأن البداءة ليست بمتمكنة. و"ابتلي" معناه: اختبر وامتحن الصابر منهم من الجازع، "وزلزلوا" معناه: حركوا بعنف، وقرأ الجمهور: "زلزالا" بكسر الزاي، وقرأها "زلزالا" بالفتح: الجحدري، وكذلك "زلزالها" في إذا زلزلت .

ثم ذكر تعالى قول المنافقين والمرضى القلوب، ونبه عليهم على جهة الذم لهم، وروي عن [ ص: 98 ] يزيد بن رومان أن معتب بن قشير قال: يعدنا محمد أن نفتح كنوز كسرى وقيصر ومكة ونحن الآن لا يقدر أحدنا أن يذهب إلى الغائط، ما يعدنا إلا غرورا، أي أمرا يغرنا ويوقعنا فيما لا طاقة لنا به، وقال غيره من المنافقين نحو هذا فنزلت الآية فيهم، وقولهم: ما وعدنا الله ورسوله إنما هو على جهة الهزء، كأنهم يقولون: على زعم هذا الذي يدعي، أنه رسول، يدل على هذا أن من المحال أن يكون اعتقادهم أن ذلك الوعد هو من الله ومن رسوله ثم يصفونه بالغرور، بل معناه: على زعم هذا.

التالي السابق


الخدمات العلمية