الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (22) قوله تعالى : " ينشركم " : قراءة ابن عامر من النشر ضد الطي ، والمعنى : يفرقكم ويبثكم . وقرأ الحسن : " ينشركم " من أنشر ، أي : أحيا وهي قراءة ابن مسعود أيضا . وقرأ بعض الشاميين " ينشركم " بالتشديد للتكثير من النشر الذي هو مطاوع الانتشار . وقرأ الباقون " يسيركم " من التسيير ، والتضعيف فيه للتعدية تقول : سار الرجل وسيرته أنا . وقال الفارسي : " هو تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية ، لأن العرب تقول : " سرت الرجل وسيرته " ، ومنه قول الهذلي : [ ص: 169 ]

                                                                                                                                                                                                                                      2575 - فلا تجزعن من سنة أنت سرتها فأول راض سنة من يسيرها



                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الذي قاله أبو علي غير ظاهر ؛ لأن الأكثر في لسان العرب أن " سار " قاصر ، فجعل المضعف مأخوذا من الكثير أولى . وقال ابن عطية : " وعلى هذا البيت اعتراض حتى لا يكون شاهدا في هذا ، وهو أن يكون الضمير كالظرف ، كما تقول : " سرت الطريق " . قال الشيخ : " وأما جعل ابن عطية الضمير كالظرف كما تقول : " سرت الطريق " فهذا لا يجوز عند الجمهور ، لأن " الطريق " عندهم ظرف مختص كالدار فلا يصل إليها الفعل غير " دخلت " عند سيبويه ، و " انطلقت " و " ذهبت " عند الفراء - إلا بوساطة " في " إلا في ضرورة ، وإذا كان كذلك فضميره أحرى أن لا يتعدى إليه الفعل " . وزعم ابن الطراوة أن " الطريق " ظرف غير مختص فيصل إليه الفعل بنفسه ، وأباه النحاة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : حتى إذا " حتى " متعلقة بـ " يسيركم " . وقد تقدم الكلام على " حتى " هذه الداخلة على " إذا " وما قيل فيها . قال الزمخشري : " كيف جعل الكون في الفلك غاية التسيير في البحر ، والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك ؟ قلت : لم يجعل الكون في الفلك غاية التسيير ، ولكن مضمون [ ص: 170 ] الجملة الشرطية الواقعة بعد " حتى " بما في حيزها كأنه قال : يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة فكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصفة وتراكم الأمواج والظن للهلاك والدعاء بالإنجاء " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو الدرداء وأم الدرداء " في الفلكي " بياء النسب . وتخريجها يحتمل وجهين ، أحدهما : أن يراد به الماء الغمر الكثير الذي لا يجري الفلك إلا فيه ، كأنه قيل : كنتم في اللج الفلكي ، ويكون الضمير في " جرين " عائدا على الفلك لدلالة " الفلكي " عليه لفظا ولزوما . والثاني : أن يكون من باب النسبة إلى الصفة لقولهم : " أحمري " كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      2576 - أطربا وأنت قنسري     والدهر بالإنسان دواري

                                                                                                                                                                                                                                      وكنسبتهم إلى العلم في قولهم : " الصلتاني " كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      2577 - أنا الصلتاني الذي قد علمتم      ... ... ... ...

                                                                                                                                                                                                                                      فزاد ياءي النسب في اسمه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وجرين يجوز أن يكون نسقا على " كنتم " ، وأن يكون حالا على إضمار " قد " . والضمير عائد على " الفلك " ، والمراد به هنا الجمع ، وقد تقدم [ ص: 171 ] أنه مكسر ، وأن تغييره تقديري ، فضمته كضمة " بدن " ، وأنه ليس باسم جمع ، كما زعم الأخفش .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : بهم فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة . قال الزمخشري : " فإن قلت : ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة ؟ قلت : المبالغة كأنه يذكر لغيرهم حاله ليعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح " . وقال ابن عطية : " بهم " خروج من الخطاب إلى الغيبة وحسن ذلك لأن قوله : كنتم في الفلك هو بالمعنى المعقول ، حتى إذا حصل بعضكم في السفن " انتهى . فقدر اسما غائبا وهو ذلك المضاف المحذوف ، فالضمير الغائب يعود عليه . ومثله أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج تقديره : أو كذي ظلمات " وعلى هذا فليس من الالتفات في شيء . وقال الشيخ : " والذي يظهر أن حكمة الالتفات هنا هي أن قوله هو الذي يسيركم خطاب فيه امتنان وإظهار نعمة للمخاطبين ، والمسيرون في البر والبحر مؤمنون وكفار ، والخطاب شامل ، فحسن خطابهم بذلك ليستديم الصالح الشكر ، ولعل الطالح يتذكر هذه النعمة ، ولما كان في آخر الآية ما يقتضي أنهم إذا نجوا بغوا في الأرض عدل عن خطابهم بذلك إلى الغيبة لئلا يخاطب المؤمنين بما لا يليق صدوره منهم وهو البغي بغير الحق ".

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 172 ] قوله : بريح متعلق بـ " جرين " ، فيقال : كيف يتعدى فعل واحد إلى معمولين بحرف جر متحد لفظا ومعنى ؟ . فالجواب أن الباء الأولى للتعدية كهي في " مررت بزيد " والثانية للسبب فاختلف المعنيان ، فلذلك تعلقا بعامل واحد . يجوز أن تكون الباء الثانية للحال فتتعلق بمحذوف ، والتقدير : جرين بهم ملتبسة بريح ، فتكون الحال من ضمير الفلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وفرحوا بها ، يجوز أن تكون هذه الجملة نسقا على " جرين " ، وأن تكون حالا ، و " قد " معها مضمرة عند بعضهم ، أي : وقد فرحوا ، وصاحب الحال الضمير في " بهم " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : جاءتها الظاهر أن هذه الجملة الفعلية جواب " إذا " ، وأن الضمير في " جاءتها " ضمير الريح الطيبة ، أي : جاءت الريح الطيبة ريح عاصف ، أي : خلفتها . وبهذا بدأ الزمخشري ، وسبقه إليه الفراء وجوز أن يكون الضمير للفلك ، ورجح هذا بأن الفلك هو المحدث عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وظنوا يجوز أن يكون معطوفا على " جاءتها " الذي هو جواب " إذا " ، ويجوز أن يكون معطوفا على " كنتم " وهو قول الطبري ولذلك قال : " وظنوا " جوابه " دعوا الله " .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ : " ظاهره العطف على جواب " إذا " لا أنه معطوف على " كنتم " لكنه محتمل كما تقول : " إذا زارك فلان فأكرمه ، وجاءك خالد فأحسن إليه " وأن أداة الشرط مذكورة " . وقرأ زيد بن علي " حيط " ثلاثيا .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 173 ] قوله : دعوا الله ، قال أبو البقاء : " هو جواب ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشرط ، تقديره : لما ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله " ، وهذا كلام فارغ . وقال الزمخشري : " هي بدل من " ظنوا " لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو متلبس به " . ونقل الشيخ عن شيخه أبي جعفر أنه جواب لسؤال مقدر ، كأنه قيل : فماذا كان حالهم إذ ذاك ؟ فقيل : دعوا الله " . و " مخلصين " حال . و " له " متعلق به . و " الدين " مفعوله .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : لئن أنجيتنا اللام موطئة للقسم المحذوف ، و " لنكونن " جوابه ، والقسم وجوابه في محل نصب بقول مقدر ، وذلك القول المقدر في محل نصب على الحال ، والتقدير : دعوا قائلين : لئن أنجيتنا من هذه لنكونن . ويجوز أن يجرى " دعوا " مجرى " قالوا " ، لأن الدعاء بمعنى القول ، إذ هو نوع من أنواعه ، وهو مذهب كوفي .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية