الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الفصل العاشر : عصمة الأنبياء من المعاصي

          وقد اختلف في عصمتهم من المعاصي قبل النبوة ، فمنعها قوم ، وجوزها آخرون . والصحيح إن شاء الله تنزيههم من كل عيب ، وعصمتهم من كل ما يوجب الريب ، فكيف والمسألة تصورها كالممتنع ، فإن المعاصي والنواهي إنما تكون بعد تقرر الشرع .

          وقد اختلف الناس في حال نبينا - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يوحى إليه ، هل كان متبعا لشرع قبله أم لا ؟ فقال جماعة : لم يكن متبعا لشيء ، [ ص: 491 ] وهذا قول الجمهور ، فالمعاصي على هذا القول غير موجودة ، ولا معتبرة في حقه حينئذ ، إذ الأحكام الشرعية إنما تتعلق بالأوامر ، والنواهي ، وتقرر الشريعة .

          ثم اختلفت حجج القائلين بهذه المقالة عليها ، فذهب سيف السنة ، ومقتدى فرق الأمة القاضي أبو بكر إلى أن طريق العلم بذلك النقل ، وموارد الخبر من طريق السمع ، وحجته أنه لو كان ذلك لنقل ، ولما أمكن كتمه وستره في العادة ، إذ كان من مهم أمره ، وأولى ما اهتبل به من سيرته ، ولفخر به أهل تلك الشريعة ، ولا احتجوا به عليه ، ولم يؤثر شيء من ذلك جملة .

          وذهبت طائفة إلى امتناع ذلك عقلا ، قالوا : لأنه يبعد أن يكون متبوعا من عرف تابعا ، وبنوا هذا على التحسين ، والتقبيح ، وهي طريقة غير سديدة ، واستناد ذلك إلى النقل كما تقدم للقاضي أبي بكر أولى وأظهر .

          وقالت فرقة أخرى بالوقف في أمره - صلى الله عليه وسلم - ، وترك قطع الحكم عليه بشيء في ذلك ، إذ لم يحل أحد الوجهين منها العقل ، ولا استبان في أحدهما طريق النقل ، وهو مذهب أبي المعالي .

          وقالت فرقة ثالثة : إنه كان عاملا بشرع من قبله ، ثم اختلفوا : هل يتعين ذلك الشرع أم لا ؟ فوقف بعضهم عن تعيينه وأحجم ، وجسر بعضهم على التعيين وصمم . ثم اختلفت هذه المعينة فيمن كان يتبع ، فقيل نوح ، وقيل إبراهيم ، وقيل موسى ، وقيل عيسى - صلوات الله عليهم - . فهذه جملة المذاهب في هذه المسألة .

          والأظهر فيها ما ذهب إليه القاضي أبو بكر ، وأبعدها مذاهب المعينين ، إذ لو كان شيء من ذلك لنقل كما قدمنا ، ولم يخف جملة ، ولا حجة لهم في أنعيسى آخر الأنبياء ، فلزمت شريعته من جاء بعدها ، إذ لم يثبت عموم دعوة عيسى ، بل الصحيح أنه لم يكن لنبي دعوة عامة إلا لنبينا - صلى الله عليه وسلم - ، ولا حجة أيضا للآخر في قوله : أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا [ النحل : 123 ] ، ولا للآخرين في قوله - تعالى - : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا [ الشورى : 13 ] ، فمحمل هذه الآية على اتباعهم في التوحيد ، كقوله - تعالى - : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ الأنعام : 90 ] .

          وقد سمى الله - تعالى - فيهم من لم يبعث ، ولم تكن له شريعة تخصه ، كيوسف بن يعقوب على قول من يقول : إنه ليس برسول .

          وقد سمى الله - تعالى - جماعة منهم في هذه الآية شرائعهم مختلفة لا يمكن الجمع بينها ، فدل أن المراد ما اجتمعوا عليه من التوحيد ، وعبادة الله - تعالى - .

          وبعد هذا فهل يلزم من قال بمنع الاتباع هذا القول في سائر الأنبياء غير نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، أو يخالفون نبيهم ؟ .

          أما من منع الاتباع عقلا فيطرد أصله في كل رسول بلا مرية . وأما من مال إلى النقل فأينما تصور له ، وتقرر [ ص: 492 ] اتبعه . ومن قال بالوقف فعلى أصله . ومن قال بوجوب الاتباع لمن قبله يلتزمه بمساق حجته في كل نبي .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية