الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (23) قوله تعالى : إذا هم يبغون : جواب " لما " ، وهي " إذا " الفجائية . وقوله : " بغير الحق " حال ، أي : ملتبسين بغير الحق . قال الزمخشري : " فإن قلت : ما معنى قوله : " بغير الحق " والبغي لا يكون بحق ؟ قلت : بلى وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفار وهدم دورهم وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة " ، وكان قد فسر البغي [ ص: 174 ] بالفساد والإمعان فيه ، من " بغى الجرح : إذا ترامى للفساد " . ولذلك قال الزجاج : " إنه الترقي في الفساد " ، وقال الأصمعي أيضا : " بغى الجرح : ترقى إلى الفساد ، وبغت المرأة : فجرت " ، قال الشيخ " ولا يصح أن يقال في المسلمين إنهم باغون على الكفرة ، إلا إن ذكر أن أصل البغي هو الطلب مطلقا ، ولا يتضمن الفساد ، فحينئذ ينقسم إلى طلب بحق وطلب بغير حق " ، قلت : وقد تقدم أن هذه الآية ترد على الفارسي أن " لما " ظرف بمعنى حين ؛ لأن ما بعد " إذا " الفجائية لا يعمل فيما قبلها ، وإذ قد فرض كون " لما " ظرفا لزم أن يكون لها عامل .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : متاع الحياة قرأ حفص " متاع " نصبا ، ونصبه على خمسة أوجه ، أحدها : أنه منصوب على الظرف الزماني نحو " مقدم الحاج " ، أي : زمن متاع الحياة . والثاني : أنه منصوب على المصدر الواقع موقع الحال ، أي : متمتعين . والعامل في هذا الظرف وهذه الحال الاستقرار الذي في الخبر ، وهو " عليكم " . ولا يجوز أن يكونا منصوبين بالمصدر لأنه يلزم منه الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر ، وقد تقدم أنه لا يخبر عن الموصول إلا بعد تمام صلته . والثالث : نصبه على المصدر المؤكد بفعل مقدر ، أي : يتمتعون متاع الحياة . الرابع : أنه منصوب على المفعول به بفعل مقدر يدل عليه المصدر ، أي : يبغون متاع الحياة . ولا جائز أن ينتصب بالمصدر لما تقدم . الخامس : أن ينتصب على المفعول من أجله ، أي : لأجل متاع والعامل فيه : إما الاستقرار المقدر في " عليكم " ، وإما فعل مقدر . ويجوز أن يكون الناصب له حال جعله ظرفا أو حالا أو مفعولا من أجله نفس البغي [ ص: 175 ] لا على جعل " على أنفسكم " خبرا بل على جعله متعلقا بنفس البغي ، والخبر محذوف لطول الكلام ، والتقدير : إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة مذموم أو مكروه أو منهي عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ باقي السبعة " متاع " بالرفع . وفيه أوجه ، أحدها - : وهو الأظهر - أنه خبر " بغيكم " و " على أنفسكم " متعلق بالبغي .

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز أن [يكون] " عليكم " خبرا ، و " متاع " خبرا ثانيا ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو متاع . ومعنى " على أنفسكم " ، أي : على بعضكم وجنسكم كقوله ولا تقتلوا أنفسكم ولا تلمزوا أنفسكم ، أو يكون المعنى : إن وبال البغي راجع عليكم لا يتعداكم كقوله : وإن أسأتم فلها ومن أساء فعليها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن أبي إسحاق " متاعا الحياة " بنصب " متاعا " و " الحياة " . فـ " متاعا " على ما تقدم . وأما " الحياة " فيجوز أن تكون مفعولا بها ، والناصب لها المصدر ، ولا يجوز والحالة هذه أن يكون " متاعا " مصدرا مؤكدا لأن المؤكد لا يعمل . ويجوز أن تنتصب " الحياة " على البدل من " متاعا " لأنها مشتملة عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ أيضا " متاع الحياة " بجر " متاع " ، وخرجت على النعت لأنفسكم ، ولا بد من حذف مضاف حينئذ تقديره : على أنفسكم ذوات متاع الحياة ، كذا خرجه بعضهم . ويجوز أن يكون مما حذف منه حرف الجر [ ص: 176 ] وبقي عمله ، أي : إنما بغيكم على أنفسكم لأجل متاع ، ويدل على ذلك قراءة النصب في وجه من يجعله مفعولا من أجله ، وحذف حرف الجر وإبقاء عمله قليل ، وهذه القراءة لا تتباعد عنه . وقال أبو البقاء : " ويجوز أن يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل ، أي : متمتعات " يعني أنه يجعل المصدر نعتا لـ " أنفسكم " من غير حذف مضاف بل على المبالغة أو على جعل المصدر بمعنى اسم الفاعل . ثم قال : " ويضعف أن يكون بدلا إذ أمكن أن يجعل صفة " ، قلت : وإذا جعل بدلا على ضعفه فمن أي قبيل البدل يجعل ؟ والظاهر أنه من بدل الاشتمال ، ولا بد من ضمير محذوف حينئذ ، أي : متاع الحياة الدنيا لها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ " فينبئكم " بياء الغيبة ، والفاعل ضمير الباري تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية