الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 492 ] الفصل الخامس في المجمع عليه وهو ما يكون الإجماع فيه دليلا وحجة وهو كل أمر ديني لا يتوقف ثبوت حجة الإجماع على ثبوته لا كإثبات العالم للصانع ، وكونه قادرا عالما مريدا ، كالنبوات فإنه لا يصلح إثبات شيء منها بالإجماع للزوم الدور ، لتوقف ثبوت المدلول على ثبوت الدليل . [ جريان الإجماع في العقليات ] وقال القاضي أبو بكر . والشيخ في اللمع " وصاحب القواطع " وغيرهم : الإجماع حجة في جميع الأحكام الشرعية ، وأما الأحكام العقلية فعلى ضربين : أحدهما : ما يجب تقديم العمل به على العلم بصحة السمع ، كحدوث العالم ، وإثبات الصانع ، وإثبات صفاته ، فلا يكون الإجماع حجة فيها ، كما لا يثبت الكتاب بالسنة ، والكتاب يجب العمل به قبل السنة . والثاني : ما لا يجب تقديم العمل به على السمع ، كجواز الرواية ، وغفران الذنوب ، والتعبد بخبر الواحد ، والقياس ، فالإجماع فيه حجة .

                                                      واعلم أنه يتلخص في هذه المسألة أعني جريان الإجماع في العقليات ثلاثة مذاهب . [ ص: 493 ] أحدها : الجواز مطلقا ، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن القاضي فقال : وقال شيخنا أبو بكر محمد بن الطيب الأشعري : يصح الاستدلال بالإجماع في جميع العلوم العقلية والشرعية ، ولذلك استدل على نفي قديم عاجز أو ميت بإجماع أهل العقول على نفيه . والثاني : المنع مطلقا ، وبه جزم إمام الحرمين ، ونقله الأستاذ أبو منصور عن أكثر أصحابنا استغناء بدليل العقل عن الإجماع . قال الأصفهاني : وهو الحق ، نعم يستعمل الإجماع في علم الكلام ، لا لإفادة العلم ، بل لإلزام الخصم وإفحامه . وبه جزم سليم في التقريب " بناء على أن الإجماع يثبت حجة بالسمع ، لا بالعقل .

                                                      وقال إلكيا : ينشأ من أن الإجماع حجة من جهة السمع أنه إنما يحتج به فيما طريق معرفته السمع ، ولا يصح أن يعرف بالإجماع ما يجب أن تتقدم معرفته قبل معرفة الإجماع ، كإثبات الصانع والنبوات . والثالث : التفصيل بين كليات أصول الدين ، كحدوث العالم ، فلا يثبت به ، وبين جزئياته كجواز الرؤية فيثبت به . ثم فيه مسائل . الأولى : يجوز أن يعلم بالإجماع كل ما يصح أن يعلم بالنصوص وغيرها من أدلة الشرع ويصح أن تعلم السمعيات كلها من ناحيته . ذكره القاضي عبد الوهاب في الملخص " . الثانية : قد استدل بعض أئمتنا على كونه تبارك وتعالى متكلما صادقا في كلامه بالإجماع وألزم الدور .

                                                      قال القرطبي : والحق التفصيل ، فإن قلنا : إن المعجزة تدل على صدق المتحدي من حيث إنها تنزلت منزلة التصديق بالقول ، فالدور لازم ، وإن قلنا : إنها تدل دلالة قرائن الأحوال ، لم يلزم . الثالثة : قيل : يمكن إثبات حدوث العالم بالإجماع ; لأنه يمكننا إثبات [ ص: 494 ] الصانع بحدوث الأعراض ، ثم تعرف صحة النبوة بالمعجزة ، ثم تعرف من جهة النبوة حجية الإجماع ، ثم تعرف به حدوث العالم . قال : ويمكننا التمسك به في التوصل إليه ، وفيه نظر . الرابعة : اختلف في الإجماع في الأمور الدنيوية ، كالآراء والحروب ، والعادة والزراعة . هل هي حجة ؟ فأطلق الشيخ في اللمع " ، والغزالي ، وإلكيا ، وغيرهم ، أنه ليس بحجة ، وقال ابن السمعاني : إنه الأصح . قال إلكيا : لا يبعد خطأ الأمة في ذلك ، وعمدتهم أن المصالح تختلف باختلاف الأزمان ، فلو قيل بحجيته ، فربما اختلفت تلك المصلحة في زمن ، وصارت في غيره ، فيلزم ترك المصلحة ، وإثبات ما لا مصلحة فيه ، وهو محذور .

                                                      ومنهم من ذهب إلى أنه حجة . قال القاضي عبد الوهاب : إنه الأشبه بمذهب أصحابهم ; لأن ذلك الأمر الذي أجمعت عليه ، وإن كان من جلب المنافع ، واجتناب المضار ، فقد صار أمرا دينيا ، وجبت مراعاته فيتناول ذلك الإجماع أدلة الإجماع . ومنهم من فصل بين ما يكون بعد استقرار الرأي ، وبين ما يكون قبله ، فقال بحجية الأول ، دون الثاني ، ولعل هذا تنقيح ضابط للقولين الأولين ، فلا يعد قولا ثالثا ، والحق أنه لا فرق في ثبوت الحكم الديني والدنيوي في الاستناد إلى ما لا يقع فيه الخطأ ، وهو الإجماع لقوله عليه السلام : { لا تجتمع أمتي على [ ص: 495 ] الخطأ } ، ولم يعين الديني ، ولك أن تقول : إن الإجماع في أمور الدنيا متعذر ، لمخالفة الزهاد لأهلها ، فما ينعقد الإجماع مع مخالفتهم ، ولهذا اختلف قول عبد الجبار في الدينية . الخامسة : إذا أجمعت الأمة على أمر لغوي ، فإن كان له تعلق بالدين كان إجماعا معتدا به ، وإلا فلا ، خلافا لمن أطلق الأمر المجمع عليه . السادسة : هل يصح أن يجمعوا على أنه لا دليل على كذا إلا ما استدلوا به ؟ قال القاضي عبد الوهاب في الملخص : ينظر ، فإن كان الدليل الثاني مما يتغير دلالته صح إجماعهم على منع كونه دليلا ، مثل أن يتعرف للخصوص أو ينقله إلى المجاز أو النسخ ، ونحوه . فإن لم يتغير فلا يصح إجماعهم على ثاني دليل سوى ما استدلوا به ، كما لا يصح منهم الإجماع على أن الإجماع لا يصح أن يكون دليلا .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية