الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما

وصف الله تعالى المؤمنين حين رأوا تجمع الأحزاب لحربهم، وصبرهم على البلاء، وتصديقهم وعد الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، واختلف المتأولون ماذا أرادوا [ ص: 105 ] بوعد الله ورسوله؟، فقالت فرقة: أرادوا ما أعلمهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر بحفر الخندق، فإنه أعلمهم بأنهم سيحصرون، وأمرهم بالاستعداد لذلك، وبأنهم سينصرون بعد ذلك، فلما رأوا الأحزاب قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، فسلموا لأول الأمر وانتظروا أجره.

وقالت فرقة: أرادوا بوعد الله ما نزل في سورة البقرة، من قوله تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب .

ويحتمل أن يكون المؤمنون نظروا في هذه الآية، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أمرهم بحفر الخندق، وأشاروا بالوعد إلى جميع ذلك، وهي مقالتان، إحداهما من الله تعالى، والأخرى من رسوله صلى الله عليه وسلم.

وزيادة الإيمان هي في أوصافه لا في ذاته; لأن ثبوته وإبعاد الشكوك عنه والشبه زيادة في أوصافه، ويحتمل أن يزيد إيمانهم بما وقع، وبما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لم يقع، فتكون الزيادة - بهذا الوجه - فيمن يؤمن به لا في نفس الإيمان. وقرأ ابن أبي عبلة : "وما زادوهم" بواو جمع.

و"التسليم": الانقياد لأمر الله تعالى كيف جاء، ومن ذلك ما ذكرناه من أن المؤمنين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند اشتداد ذلك الخوف: إن هذا أمر عظيم، فهل من شيء نقوله؟ فقال: "قولوا: اللهم آمن روعاتنا، واستر عيوبنا"، فقالها المسلمون في تلك الضيقات.

[ ص: 106 ] ثم أثنى الله عز وجل على رجال من المؤمنين عاهدوا الله تعالى على الاستقامة التامة فوفوا وقضوا نحبهم، أي نذرهم وعهدهم، والنحب - في كلام العرب -: النذر، والشيء الذي يلتزمه الإنسان ويعتقد الوفاء به، ومنه قول الشاعر:


قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر.



المعنى أنه التزم الصبر إلى فتح أو موت فمات، ومن ذلك قول جرير :


بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا ...     عشية بسطام جرين على نحب



أي: على أمر عظيم التزم القيام به، كأنه خطر عظيم.

وقد يسمى الموت نحبا، وبه فسر ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآية، وقال الحسن: "قضى نحبه": مات على عهد، ويقال للذي جاهد في أمر حتى مات: قضى نحبه، ويقال لمن مات: قضى فلان نحبه، وهذا تجوز، كأن الموت أمر لابد [ ص: 107 ] للإنسان أن يقع به فسمي نحبا لذلك.

فممن سمى المفسرون أنه أشير إليه بهذه الآية أنس بن النضر، عم أنس بن مالك ، وذلك أنه غاب عن بدر، فساءه ذلك وقال: لئن شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا ليرين الله ما أصنع، فلما كانت أحد أبلى بلاء حسنا حتى قتل، ووجد فيه نيف على ثمانين جرحا، فقالت فرقة: إن هذه الإشارة هي إلى أنس بن النضر ونظرائه ممن استشهد في ذات الله تعالى. وقال مقاتل والكلبي : الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه هم أهل العقبة السبعون أهل البيعة. وقالت فرقة: الموصوفون بقضاء النحب هم جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفوا بعهود الإسلام على التمام، فالشهداء منهم، والعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم، إلى من حصل في هذه المرتبة ممن لم ينص عليه، ويصحح هذه المقالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على المنبر، فقال له أعرابي: يا رسول الله، من الذي قضى نحبه؟ فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم دخل طلحة بن عبيد الله على باب المسجد، وعليه ثوبان أخضران، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين السائل؟ فقال: هأنذا ذا يا رسول الله، قال: هذا ممن قضى نحبه. فهذا أدل دليل على أن النحب ليس من شروطه الموت. وقال معاوية بن أبي سفيان : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " طلحة ممن قضى نحبه"، وروت هذا المعنى عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم.

[ ص: 108 ] وقوله تعالى: ومنهم من ينتظر ، يقول: ومنهم من ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح، وهو بسبيل ذلك، وما بدلوا وما غيروا، ثم أكد بالمصدر. وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما على منبر البصرة: "ومنهم من بدل تبديلا"، رواه عنه أبو نصرة.

وروى عنه عمرو بن دينار : "ومنهم من ينتظر وآخرون بدلوا تبديلا".

واللام في قوله سبحانه: ليجزي الله لام الصيرورة والعاقبة، ويحتمل أن تكون لام كي، وتعذيب المنافقين ثمرة إدامتهم الإقامة على النفاق إلى موتهم، والتوبة موازية لتلك الإدامة، وثمرة التوبة تركهم دون عذاب، فهما درجتان: إدامة على نفاق، أو توبة منه، وعنهما ثمرتان: تعذيب أو رحمة، فذكر تعالى - على جهة الإيجاز - واحدة من هذين، وواحدة من هذين، ودل ما ذكر على ما ترك ذكره. ويدلك على أن معنى قوله: "ليعذب": ليديم على النفاق قوله: "إن شاء" ومعادلته بالتوبة وبحرف "أو"، ولا يجوز أحد أن "إن شاء" يصح في تعذيب منافق على نفاقه، بل قد حتم الله على نفسه بتعذيبه.

التالي السابق


الخدمات العلمية