الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا

قرأ الجمهور بكسر القاف. وفتحها نافع وعاصم ، فأما الأولى فيصح أن تكون من الوقار، تقول: وقر يقر وقارا، وقرن مثل عدن، ويصح أن تكون من القرار، تقول: "قررت بالمكان" - بفتح الراء - أقر، والأصل: أقررن، حذفت الراء الواحدة تخفيفا، - كما قالوا في ظللت: ظلت -، ونقلوا حركتها إلى القاف، واستغني عن الألف، وقال أبو علي : بل عل بأن أبدلت الراء ياء ونقلت حركتها إلى القاف ثم حذفت الياء لسكونها وسكون الراء بعدها.

وأما الثانية فعلى لغة العرب: "قررت - بكسر الراء - أقر - بفتح القاف - في المكان" وهي لغة ذكرها أبو عبيد في "الغريب المصنف"، وذكرها الزجاج وغيره، وأنكرها قوم، منهم المازني وغيره، قالوا: وإنما يقال قررت - بكسر الراء - من قرة العين، وأما من القرار فإنما هو من قررت - بفتح الراء -.

وقرأ عاصم : "في بيوتكن" - بكسر الباء -، وقرأ ابن أبي عبلة : "واقررن" بألف وصل وراءين الأولى مكسورة. فأمر الله تعالى في هذه الآية نساء النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة [ ص: 117 ] بيوتهن، ونهاهن عن التبرج، وأعلمهن أنه فعل الجاهلية الأولى.

وذكر الثعلبي وغيره أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى تبل خمارها، وذكر أن سودة قيل لها: لم لا تحجين وتعتمرين كما تفعل أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت وأمرني الله تعالى أن أقر في بيتي، قال الراوي: فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وبكاء عائشة رضي الله عنها إنما كان بسبب سفرها أيام الجمل، وحينئذ قال لها عمار رضي الله عنه: إن الله أمرك أن تقري في بيتك.

و"التبرج": إظهار الزينة والتصنع بها، ومنه البروج; لظهورها وانكشافها للعيون.

واختلف الناس في "الجاهلية الأولى"، فقال الحكم بن عيينة: ما بين آدم ونوح عليهما السلام، وهي ثمانمائة سنة، وحكيت لهم سير ذميمة، وقال الكلبي وغيره: ما بين نوح وإبراهيم عليهما السلام، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما بين نوح وإدريس عليهما السلام، وذكر قصصا، وقالت فرقة: ما بين موسى وعيسى عليهما السلام، وقال عامر الشعبي : ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وقال أبو العالية : هو زمان سليمان وداود عليهما السلام، كان فيه للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبين.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والذي يظهر عندي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقتها، فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة، لأنهم كانوا لا غيرة عندهم، وكل أمر النساء دون حجبة، وجعلها أولى بالإضافة إلى حالة الإسلام، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى، وقد مر اسم الجاهلية على تلك المدة التي قبل الإسلام فقالوا: جاهلي في الشعراء، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في البخاري : "سمعت أبي في الجاهلية يقول" إلى غير هذا.

و"الرجس" اسم يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسات والنقائص، فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت، ونصب "أهل البيت" على المدح، أو على النداء المضاف، أو بإضمار: أعني.

[ ص: 118 ] واختلف الناس في أهل البيت، من هم؟ فقال عكرمة ، ومقاتل ، وابن عباس رضي الله عنهما: هم زوجاته خاصة، لا رجل معهن رجل، وذهبوا إلى أن "البيت" أريد به مساكن النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت فرقة - هي الجمهور -: أهل البيت: علي وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم، وفي هذا أحاديث نبوية، قال أبو سعيد الخدري : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزلت هذه الآية في خمسة: في، وفي علي وفاطمة والحسن والحسين ومن حجة الجمهور قوله تعالى: "عنكم" و"يطهركم" بالميم، ولو كان للنساء خاصة لكان: "عنكن" و"يطهركن" والذي يظهر إلي أن زوجاته لا يخرجن عن ذلك البتة، فأهل البيت زوجاته وبنته وبنوها وزوجها، وهذه الآية تقضي أن الزوجات من أهل البيت: لأن الآية فيهن، والمخاطبة لهن، أما أن أم سلمة قالت: نزلت هذه الآية في بيتي، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ، فدخل معهم تحت كساء خيبري، وقال: "هؤلاء أهل بيتي"، - وقرأ الآية - وقال: "اللهم اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا"، قالت أم سلمة : فقلت: وأنا يا رسول الله؟ فقال: "أنت من أزواج النبي، وأنت إلي خير". وقال الثعلبي : هم بنو هاشم، فهذا على أن "البيت" يراد به النسب، فيكون العباس وأعمامه وبنو أعمامه منهم، وروي نحوه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه.

التالي السابق


الخدمات العلمية