الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه الخامس عشر

أن يقال: كون الدليل عقليا أو سمعيا ليس هو صفة تقتضي مدحا ولا ذما ولا صحة ولا فسادا، بل ذلك يبين الطريق الذي به علم، وهو السمع أو العقل، وإن كان السمع لا بد معه من العقل، وكذلك كونه عقليا أو نقليا، وأما كونه شرعيا فلا يقابل بكونه عقليا، وإنما يقابل بكونه بدعيا، إذ البدعة تقابل الشرعة، وكونه شرعيا صفة مدح، وكونه بدعيا صفة ذم، وما خالف الشريعة فهو باطل.

ثم الشرعي قد يكون سمعيا وقد يكون عقليا، فإن كون الدليل شرعيا يراد به كون الشرع أثبته ودل عليه، ويراد به كون الشرع أباحه وأذن فيه، فإذا أريد بالشرعي ما أثبته الشرع، فإما أن يكون معلوما بالعقل أيضا، ولكن الشرع نبه عليه ودل عليه، فيكون شرعيا عقليا. [ ص: 199 ]

وهذا كالأدلة التي نبه الله تعالى عليها في كتابه العزيز، من الأمثال المضروبة وغيرها الدالة على توحيده وصدق رسله، وإثبات صفاته وعلى المعاد، فتلك كلها أدلة عقلية يعلم صحتها بالعقل، وهي براهين ومقاييس عقلية، وهي مع ذلك شرعية.

وإما أن يكون الدليل الشرعي لا يعلم إلا بمجرد خبر الصادق، فإنه إذا أخبر بما لا يعلم إلا بخبره كان ذلك شرعيا سمعيا.

وكثير من أهل الكلام يظن أن الأدلة الشرعية منحصرة في خبر الصادق فقط، وأن الكتاب والسنة لا يدلان إلا من هذا الوجه، ولهذا يجعلون أصول الدين نوعين: العقليات، والسمعيات، ويجعلون القسم الأول مما لا يعلم بالكتاب والسنة.

وهذا غلط منهم، بل القرآن دل على الأدلة العقلية وبينها ونبه عليها، وإن كان من الأدلة العقلية ما يعلم بالعيان ولوازمه، كما قال تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد [فصلت: 53] .

وأما إذا أريد بالشرعي ما أباحه الشرع وأذن فيه، فيدخل في ذلك ما أخبر به الصادق، وما دل عليه ونبه عليه القرآن، وما دلت عليه وشهدت به الموجودات.

والشارع يحرم الدليل لكونه كذبا في نفسه، مثل أن تكون إحدى مقدماته باطلة، فإنه كذب، والله يحرم الكذب، لا سيما عليه، كقوله تعالى: ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه [الأعراف: 169] . [ ص: 200 ]

ويحرمه لكون المتكلم به يتكلم بلا علم، كما قال تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم [الإسراء: 36] ، وقوله تعالى: وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [الأعراف: 33] ، وقوله: ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم [آل عمران: 66] .

،ويحرمه لكونه جدالا في الحق بعد ما تبين، كقوله تعالى: يجادلونك في الحق بعدما تبين [الأنفال: 6] ، وقوله تعالى: ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق [الكهف: 56] .

وحينئذ فالدليل الشرعي لا يجوز أن يعارضه دليل غير شرعي، ويكون مقدما عليه، بل هذا بمنزلة من يقول: إن البدعة التي لم يشرعها الله تعالى تكون مقدمة على الشرعة التي أمر الله بها، أو يقول: الكذب مقدم على الصدق، أو يقول، خبر غير النبي صلى الله عليه وسلم يكون مقدما على خبر النبي، أو يقول: ما نهى الله عنه يكون خيرا مما أمر الله به، ونحو ذلك، وهذا كله ممتنع.

وأما الدليل الذي يكون عقليا أو سمعيا من غير أن يكون شرعيا، فقد يكون راجحا تارة ومرجوحا أخرى، كما أنه قد يكون دليلا صحيحا تارة، ويكون شبهة فاسدة أخرى، فما جاءت به الرسل عن الله تعالى إخبارا أو أمرا لا يجوز أن يعارض بشيء من الأشياء، وأما ما يقوله الناس فقد يعارض بنظيره، إذ قد يكون حقا تارة وباطلا أخرى، وهذا مما لا ريب فيه لكن من الناس من يدخل في الأدلة الشرعية ما ليس منها، كما أن منهم من يخرج منها ما هو داخل فيها، والكلام هنا على جنس الأدلة، لا على أعيانها.

التالي السابق


الخدمات العلمية