الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 3 ] الجزء التاسع

                          بسم الله الرحمن الرحيم

                          قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين هذه الآيات وما بعدها تتمة قصة شعيب عليه السلام ، مبدوءة بجواب قومه له عما أمرهم به من البر ، ونهاهم عنه من المنكرات والآثام ، وأنذرهم إياه من الانتقام بقوله : فاصبروا حتى يحكم الله بيننا ورد بأسلوب الاستئناف البياني كأمثلة من مراجعة الكلام ، وتولاه الملأ منهم ؛ أي : كبراء رجالهم كدأب الجماعات والأقوام ، وهو : قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا أي : قال أشراف قومه وأكابرهم الذين استكبروا عن الإيمان له ، وعتوا عما أمرهم به ونهاهم عنه اتباعا لأهوائهم وقد استضعفوه : نقسم لنخرجنك يا شعيب أنت والذين آمنوا معك من قريتنا الجامعة أو من بلادنا كلها ، فلفظ القرية والبلد يطلق أحيانا على القطر أو المملكة ، أو لتعودن وترجعن إلى ملتنا ، وما ندين به من تقاليدنا الموروثة عن آبائنا فتكون ملة لكم ، ومحيطة بكم معنا . ضمن العود معنى الظرفية ، وهو يتعدى [ ص: 4 ] بـ " اللام " و " إلى " و " في " ، ومنه أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى ( 17 : 69 ) يعني البحر ، إذ الخطاب قبله لمن مسهم الضر فيه ، وليس فيه من معنى الظرفية ما في قوله : منها خلقناكم وفيها نعيدكم ( 20 : 55 ) يعني الأرض ، والمعنى : نقسم ليكونن أحد هذين الأمرين : إخراجكم أو عودتكم في الملة ، فاختاروا لأنفسكم ، قيل : إن التعبير بالعود يقتضي أنهم كانوا على ملتهم ثم خرجوا منها ، وهو يصدق بالمجموع ، فلا ينافي القول بعصمة الأنبياء من الكفر حتى قبل النبوة ، على أن شعيبا عليه السلام لم يكن قبل النبوة على ملة أخرى غير ملة قومه فيمنعهم ذلك من التعبير في شأنه بالعودة ، وكونه لم يشاركهم في شركهم ، ولا في بخس الناس أشياءهم ، وهضم حقوقهم أمر سلبي لا يلتفت إليه جمهورهم ، ولا يعدونه به خارجا عنهم ، وقال الراغب : العود : الرجوع إلى الشيء بعد الانصراف عنه ، إما انصرافا بالذات أو بالقول والعزيمة ا هـ ، ومنه ذمه والدعوة إلى غيره ، ولا يقتضي هذا المعنى سبق الكون فيه ولا عدمه ، فلا حاجة إذن إلى تصحيح التعبير بما قيل من تفسير العود بالمصير ، وفيه من التكلف ما ليس في القول بالتغليب ، ولا سيما في جوابه عليه السلام .

                          قال أولو كنا كارهين ؟ يعني : أنعود في ملتكم على كل حال من الأحوال حتى حال الكراهة لها الناشئة عن اعتقاد بطلانها وقبحها ، وما يترتب عليها من الفساد في الدنيا والعذاب في الآخرة ؟ فالاستفهام للإنكار و ( لو ) للغاية ، أو : أتأمروننا أن نعود فيها ، وتهددوننا بالنفي من وطننا ، والإخراج من ديارنا إن لم نفعل ، ولو كنا كارهين لكل من الأمرين ؟ على الأصل فيما يحذف متعلقه ، وهو أن يتناول كل ما يصلح له ، فالاستفهام للتعجب من صنيعهم واستنكار طلبهم ، ورفضه بدون مبالاة ، ووجه كل من الإنكار والتعجب جهل هؤلاء الملأ بكنه الدين والملة ، وكونه عقيدة يدان الله بها ، وأعمالا يتقرب إليه بأدائها ، وإن كان غنيا عنها ، وإنما شرعها لتكمل الفطرة البشرية بالتزامها ، وجهلهم بكون حب الوطن وإلف السكن لا يبلغ هذه المنزلة ولجهلهم هذا ظنوا أن شعيبا عليه السلام قد يؤثر هو ومن آمن معه التمتع بالإقامة في وطنه ، ومجاراة أهله في كفرهم ورذائلهم على مرضاة الله تعالى بالتوحيد المطهر للنفس من أدران الخرافات ، وبالفضائل المرقية للنفس في معارج الكمال ، ذلك بأن الملة عند أولئك الخاسرين رابطة تقليدية وعصبية قومية ، يجري أصحابها فيها على قول الشاعر :

                          وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد

                          وملة الرسل عليهم السلام ليست كذلك بل هي دين مالك للنفس ، حاكم على الوجدان والعقل ، يقصد به الكمال البشري الأعلى بمعرفة الله تعالى والقرب منه ، وما يتبع ذلك من صلاح الدنيا وسعادة الآخرة ، فإن تمكن صاحبه من إقامته في وطنه ، وإصلاح أهله به [ ص: 5 ] فهم أحق به بدءا ودواما ، وإن منع فيه حريته ففتن في دينه كان تركه واجبا ، فإن لم يخرج منه شعيب ومن آمن معه إخراجا وهم كارهون ، كما أخرج خاتم النبيين مع السابقين الأولين إلى الإسلام ، خرجوا مهاجرين كما فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام : وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ( 29 : 26 ) وقد أوجب الله تعالى الهجرة على من يستضعف في أرض وطنه فيمنع من إقامة دينه فيها ، ويوجب المتعصبون للأوطان في هذا العصر الهجرة منها إذا منعوا حريتهم الشخصية فيما هو دون الدين والوجدان ، بل يعز على بعضهم أن يقيم في وطنه إذا منع فيه حرية الفسق والآثام ، ورب أناس عز عليهم ترك وطنهم ، فآثروا البقاء فيه مفتونين في دينهم ، فأظهروا الكفر ليأمنوا على حياتهم ، وظلوا يسرون المحافظة على الإسلام في خاصة أنفسهم ، ولكنهم لم يتمكنوا من تلقينه لأولادهم وتربيتهم عليه فارتدت ذريتهم عنه في زمنهم أو من بعدهم ، كما وقع لبعض مسلمي الأندلس بعد ثل الأسبانيين لعرض دولتهم العربية ، وإكراههم على التنصر أو الخروج من البلاد ، فخرج بعض وبقي آخرون تحت وعيد قوله تعالى : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ( 4 : 97 - 99 ) .

                          وقد قدر بعض المفسرين الفعل المحذوف من الجملة ، ومتعلق الكراهة هكذا : قال أتخرجوننا من وطننا بغير ذنب يقتضي الإخراج ، ولو كنا كارهين لمفارقته حريصين على الإقامة فيه ؟ وهو تخصيص لا وجه له ، فاللفظ يقتضي تقدير كراهة كل من الأمرين لحذف متعلق الكراهة ، والمقام يجوز تخصيصه بالعود في ملتهم ؛ لأنه الأهم عند الأنبياء والمناسب لبقية جوابه عليه السلام .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية